كائن رقيق »A Gentle Creature»
صباح محسن
عادة ما تتغير بوصلة النظر للأشياء بعد حدوث متغيرات تاريخية كبرى ، تهز او تتلف زاوية النظر الجامدة ، لتُطيح بقناعات بدت أنها ثابتة ولن تتغير ؟ يحدث ذلك في الهزات الاجتماعية او السياسية او الاقتصادية الكبرى ، لتقفز الى سطح القناعات ايمانات ووجهات نظر، ورؤية، تتماهى بقبول ما تم تغييره ، وهذا يجري بالتوافق مع الاحداث التاريخية بشكل صادم ، وغير خاضع لمفهوم او جلبة معرفية ، تتغير الاحوال برمشة عين ، لتقبع في الظلام منسية ، تلك الاحلام التي دفعت للسرديات الكبرى ، للأفول والتلاشي .
فيلم « كائن رقيق « يمس هذه التيمة بشكل مباشر ، ودون خوف ! ويتقرب لمماحكة بعض من مظاهر النظام السياسي في روسيا ، ويتوارى خلف اسقاطات سياسية سابقة في عهد الاتحاد السوفياتي ، يشير اليها بوضوح ، دون حذر ، ويمس قناعات ، كانت الى عهد قريب صعب مساسها ؟
ان فيلم « كائن رقيق « للمخرج سيرجي لوزنتسيا والذي كتب السيناريو له ، انتاج عام 2017 ، تناول المتغيرات التي طرأت على المجتمع الروسي ، بعد مرحلة البروستريكا ، لكشف الكثير من المتناقضات في بنية المجتمع الروسي الخارح توا من مظاهر ادارة سياسية شمولية ، ارهقت الثقافة الفردية للشخصية الروسية بالعموميات ، والمفاهيم المطلقة المفتوحة على آفاق انسانية شاملة …!
وقد تم تمرير الكثير من الافلام الروسية بعد البروستريكا خارج سلطة الرقيب ، او تلك السلطة القامعة ، وبطريقة لا تخلو من غض الطرف على انتاج بصري قد يوحي للآخر المُشّبع بأفكار مضادة عن الداخل الروسي المغلق ؟ .
في قرية صغيرة في الجنوب الروسي تبدأ الحكاية ، عن امرأة وحيدة تبعث بطرد عبر البريد المحلي لزوجها القابع في احد سجون المدينة ، معبأ بأشياء تخصه ، لتبدأ الوقائع بعد ذلك بعودة الطرد للسيدة الوحيدة وكما هو ، حين أودعته البريد ! لتكون رحلتها من قريتها الصغيرة الى المدينة التي تحوي السجن والذي يسكن فيه زوجها ، بحسب تعبير سائق التكسي الذي أقلها من مدينتها الصغيرة ، والموّشى بعقلية نقدية ، وفطنة ، ليتناول وبشكل واع التغيرات التي ضربت المجتمع الروسي بعد التحولات ، وسخريته اللاذعة لكل ما تم الاتيان به كبديل عما اعتادت الناس عليه ، حيث يصف الناس الذين يقبعون بالسجن بأنهم اشبه بالأموال الجامدة والتي تودع في بنوك ميتة ، حيث لا حركة للمال ، وليست هناك فائدة من اولئك الرجال السجناء..! الى حيث احياء ومناطق ونماذج كثيرة ومختلفة على قارعة طريق رحلتها ، المليء بالمفارقات والاحداث المتعددة ، بين نماذج التائهين بالطرقات ، الى بيوت البغي المنتشرة على طوال طريق رحلتها ، وعصابات المخدرات ، والخطف ، والعنف المستشري في شوارع المدن الخلفية ، الى فساد الشرطة ، وايغالها في البطش ، مع تعاونها مع كبريات عصابات المافيا ، الى الحانات المغلقة للشاذين ، والخارجين على القانون ، الى عجائز يتشكيّن من غدر ازواجهن ، وهن فرحات لانهم في سجن المدينة ، وهن يمارسن البغاء..!
ولكي تصل المرأة الوحيدة والصامتة والغريبة ، والمليئة بحطام روحي ، وكأنها شاهدة حال على ما يجري في عمق المجتمع الروسي ، حيث أنها لم تتكلم ، الا بجمل قصيرة ومقتطعة ، من مثل ، نعم ، وماذا افعل ، وكيف ترى الامر انت ، او كما تريد ، او تريدين ! ، والتي برعت بأداء شخصيتها الممثلة المذهلة فاسيلينا ماكوفيتس والتي ترشحت عنه لجائزة مهرجان كان عن احسن ممثلة .
اعتمد المخرج سيرجي بإدارته للفيلم على الكاميرا المفتوحة على مشهد جماعي ومحاولة ايقافها عن الدوران في كشف وجوه الممثلين ، ازدحم بهم المكان المحدود والضيق ، والذي يشبه مكانا للحجز الحيواني ! لينتج مشهدا تكامليا من الحركات والايماءات والرفض بشكل عام لكل الممثلين مما اختصر الكثير من الابطال مع حكاياتهم ، والدفع باتجاه ابراز المأساة بشكل جماعي ، وهذه من سمات فيلم « كائن رقيق « بانغلاقه على تيمة واحدة محركة لكل وقائع الفيلم ، مع تماسات هنا وهناك لوقائع مجاورة ، وقد نجح بذلك كثيرا .
حفل الفيلم بالكثير من المشاهد الجميلة ، في محطة القطار ، وبعض من زوايا المدن الروسية البعيدة ، والمعزولة ، والكشف عن خفاياها ، وجس نبض حياتها .
هناك مشهد جميل ، وذكي ، ومحمل برمزية عالية ، حين عودة المرأة الوحيدة والغامضة خالية الوفاض من رحلتها الى السجن ، وتلاعب بعض النصابين بنواياها ، وزجها في عوالم غريبة عليها ، لم تر مثلها من قبل . وفي طريق عودتها الخائبة تسأل احد الرجال اليائسين والذي يتخذ من الرصيف مكانا له بجوار نافورة ماء يعبث بها ، لتسأله عن كيفية وصولها للشارع العام لاستئجار تاكسي يرد عليها ، وهو يلعن كل شيء ليقول لها : خذي شارع العجوز هيغل ، ومن ثم عرجي يسارا لشارع صاحب اللحية الكثة ماركس ، ثم تتحولين اقصى اليسار ليلاقيكِ شارع صاحبنا لينين ، ومن ثم ساحة باسم احدهم ، وشوارع اخرى بأسماء اهل الثورة ، لأنه وكما تعلمين ان كل شوارعنا وساحاتنا مسجلة بأسماء اولئك. تأملته وهي شاردة الذهن ، لتتركه يهذي بالمزيد من تهكماته .
كان المشهد الاخير ينطوي على براعة فنية عالية ، حيث اختصر المخرج كل فطنته بصناعته ، بشكل وطريقة اقرب للمشهد المسرحي الاحتفالي ، حين يُزج بها بعد انتظارها الممل في قاعة تضج بالمنتظرين ، لتهمس بإذنها احدي البغايا المعتقات والمتعاونة مع افراد شرطة فاسدين ودعوتها وبعد طول عناء ، لرؤية زوجها السجين ، ليقوم افراد الشرطة بإلزامها بتغيير ملابسها واكساء جسدها بملابس تشبه الى حد ما ملابس العروس ، لتنكشف القاعة عن مدير السجن البدين بلباسه العسكري الابيض وصالة طويلة محاطة بجميع من مروا عليها في الشوارع والساحات والتقاطعات ، والمدن الخلفية ، مع رجال العصابات ، والبغايا ، ورجال الشرطة الذين تعاملت معهم. وآخرين ، امام بهرجة طعام وشراب يقودها مدير السجن البدين بلباسه الابيض وهو يدعوهم للحديث عن حياتهم في السجن والرعاية الممنوحة لهم منه ومن الحكومة ليسرد كل واحد منهم حكايته ورضاه عن المدير وسجنه والاكثار من المديح والتبجيل له ولإدارته ، وابتسامات قائمة منه لقبوله ما يتحدثون ، والمرأة الوحيدة والصامتة تنظر للواقعة من خلال زجها في مكان يشبه غرفة مصعد من العهد القيصري ، ليقوم مدير السجن ومن معه بتوديع المرأة الصامتة بإشارات من اياديهم والشرطة ممسكة بيديها باتجاه سيارة ضخمة وعتيقة ومغلقة، لزجها في ظلامها والبدء بتعريتها واغتصابها بشكل جماعي من جال الشرطة.
ليقوم المخرج بإعادتنا لنفس الصالة التي تضج بالناس المنتظرين ، وهم نيام بشكل كامل ، حيث المرأة الصامتة وهي نائمة بينهم ايضا، لتوقظها نفس المرأة الكبيرة والبغي ، قائلة لها، هيا بنا لنذهب لزوجك ، لترد عليها هول ما رأت في منامها ، الى أين؟
لتنسحب الكاميرا الى الوراء بطريقة هادئة مخلفة مجموعة الناس المنتظرين والنيام