سينما خارج المخطط الصناعيّ

ترجمة صلاح سرميني

إذا كانت السينما التي وُلدت في عام 1894، وأصبحت سريعا أداةَ للإبداع بالنسبة للفنانين التشكيليين، فإن دخولها في مقتنيات المتحف الوطني للفن الحديث بباريس قد يبدو متأخراً، حيث يعود تاريخه إلى عام 1972 مع فيلم «بول بوري»، و»كلوفيس بريفوست» Une leçon de géométrie plane من إنتاج عام 1971، مع أن «مركز جورج بومبيدو» لم يكن موجوداً حتى ذلك التاريخ، ومنذ ذلك الحين، وبفضل سياسة الاقتناء، والمُشتريات، جمعت المجموعة نحو 1128 فيلماً، و19 منشأة سينمائية (تركيبات سينمائية).
السينما هي في الأساس حديثة، حيث أن طبيعتها التقنية وُلدت من الثورة الصناعية التي عجلت من تغييرات المجتمع في نهاية القرن التاسع عشر.
الحداثة التي تجسّدت في جملة أمور مثل الصناعة، التمدن، السرعة، والانتقالات، وجدت شكل تمثيلها في هذه التقنية التي تسجل الحقيقة في حركة، حركة الكاميرا المُسمّاة «ترافلينغ»، والتي تعني السفر، هي تركيز لهذه الخصائص.
من البداية، سوف تطمس السينما بعدها المادي، والتقني لصالح تجربةٍ تستند إلى المسرح (من جانبٍ منصة المسرح، ومن الجانب الآخر الصالة)، وشاشة أصبحت مكاناً لعمقٍ خيالي.
على العكس من ذلك، بدأ الفنانون يتساءلون عن كل هذه الأجزاء المخفية من التجربة السينمائية، ويحللون مختلف مكوّنات الصورة المتحركة (التتابع، المونتاج، التأطير، وسائل العرض، …).
وهذا هو بالتحديد البعد الذي يقترحه هذا الملف بهدف فهمه بشكلٍ أفضل، وذلك بالاعتماد على أمثلة من الأفلام الاكثر تمثيلاً لمقتنيات المتحف.
حتى وإن تعددت دعامات الصورة المتحركة، من بينها الشريط المغناطيسي، والشكل الرقمي، وتمّ استيعابها مؤخراً بمفهوم السينما، يركز هذا الملف أساساً على مقتنيات المجموعة، أيّ على كل ما يتعلق بالبعد المادي للوسيط، الشريط الحساس.

سينما خارج المخطط الصناعي.
ـ سينما تمتلك علاقة وطيدة مع تيارات الطليعة.
ـ سينما مُندمجة في السياقات الفنية للوسائط المتعددة.

السينما، شعار الحداثة، سحرت الفنانين، عندما في نهاية القرن التاسع عشر، تمّ التشكيك بالرسم من حيث الشكل، والموضوع، وهكذا قدم الفيلم نافذة عرض جديدة للفنانين التشكيليين، كان التأثير متبادلاً بين السينما، والتقنيات التقليدية، مثل الرسم، أو النحت، وبدأ كل تيار من الأفكار يستثمر بطريقته الخاصة تلك الأداة الجديدة، وتوليد العديد من الابتكارات مع تجديد علاقتنا بالصورة.

دادا

في خضّم الحرب العالمية الأولى، اجتمع الدادائيون للتنديد بالقيّم البورجوازية التي اعتقدوا أنها مصدر الصراع، وخضع تقديس العمل الفني لانتقاداتٍ عنيفة، وبالتساؤل عن مفهوم المؤلف، والخبرة، وجد الدادائيون في الكاميرا وسيلة للتعبير تلبّي توقعاتهم، وحاجاتهم إلى قيّم جديدة.
يستند Entr›acte عام 1924 لمخرجه «رينيه كلير» (1898 – 1981) على سيناريو لـ»فرانسيس بيكابيا» وموسيقى «إيريك ساتي»، وقد أراد الثلاثة صنع فيلم «لإخراج الحاضرين من الصالة» خلال فترة استراحة الباليه «ريلاش».
يقول «بيكابيا» إن هذا الفيلم «الذي لا يحترم أيّ شيءٍ، باستثناء الحق في الانفجار من الضحك»، هو سلسلة من المغامرات العبثية، وغير اللائقة، تتخللها شعاراتٍ مناهضة للفن على طريقة دادا.
منذ بداية الفيلم، يصوّب «بيكابيا»، و»ساتي» فوهة مدفع إلى الكاميرا، وبالتالي إلى المشاهدين خلال العرض، ثم نشاهد حشداً يتبع عربة موتى تسير لوحدها، ينتهي بها المطاف بفقدان التابوت في حقل واسع، يخرج منه ساحر يجعل المطاردين يختفون … فيلمٌ استفزازيّ، وغريب، يخلق المونتاج الجريء علاقات متناقضة تفكك خطية إطار السرد.
في الوقت نفسه، تدّعي الدادائية لغة مجردة تتطور في السينما على شكل رسم متحرك، في Rhythmus 21 للألماني «هانز ريختر»، ترسم المربعات، والمستطيلات المتحركة أسطح العرض، بعد مشاهدة هذه الرسوم، بدأ الفنان الهولندي «ثيو فان دوسبرغ» بتطوير نظرية العمارة كما ترتيب، وتخطيط شاشات.

السينما السوريالية

ما يُميّز السوريالية هي الرغبة في نقل الفن إلى الجانب الوثائقي برفض الروائي، الرواية، والتأثيرات الفنية، يمكننا الإشارة هنا إلى اهتمام مجموعة «أندريه بريتون» بالأفلام العلمية، وخاصة الأفلام الوثائقية عن الحياة البرية لـ»جان بانليفيه»، والتي كانت تُعرض أثناء معارض الجماعات.
«القوقعة، ورجل الدين» لجيرمان دولاك (1927) هو اقتباس لنص «أنتونان أرتو»، والذي قال بنفسه: «يسعى هذا السيناريو إلى الحقيقة المظلمة للروح، في صور مشتقة فقط من نفسها، وهي لا تستمدّ معناها من الوضع الذي تتطور فيه، ولكن من الضرورة الداخلية، والقوية التي تعرضها في ضوء حقيقة بديهية»، سمة من نوعٍ أدبي جديد، أدهشت كتابة «آرتو» هذه المخرجة بلغتها القريبة من منظومات سينمائية، مونتاج، تباين في العمق، والسرعة أيضاً.

سينما حروفية، ووضعية

قادت الحرب الفنانين السورياليين إلى الولايات المتحدة، حيث حصل هؤلاء على سمعةٍ كبيرة، وهكذا أصبحت باريس معزولة ثقافياً، ولكنها في هام 1945 وجدت نفساً طليعياً مع «إيسيدورو إيزو»، شاعر روماني شاب، تدميريّ، ومؤسّس الحركة الحروفية، نظرية فنية ثورية علنية ارتكزت على استغلال جميع الأشكال الصوتية التي ينتجها الإنسان.
في عام 1949 انضمّ الفنان الفرنسي «موريس لوميتر» إلى هذه المدرسة من المحرّضين، وقدم شكلاً جديداً من أشكال العرض، أسماه Syncinéma، يكسر، ويوسّع العرض التقليدي للسينما، ويحوله إلى «عرض» كامل بمشاركة الجمهور: العرض على الشاشة، وفي الصالة أيضاً.
يلخص الفيلم المتوسط الطول «هل بدأ عرض الفيلم؟» (1951) العديد من الأبحاث لكسر شكل العرض السينمائي.
أشكالٌ مجردة موضوعة أمام الشاشة، وفي بعض الأحيان شريط الصوت مستقل عن الصور، وإخراج مباشر في الصالة، في العرض الأول للفيلم، تدخل «موريس لوميتر» شخصياً في إثارة الجمهور، ومن خلال الجمع بين كل هذه العناصر، يخلق «لوميتر» عرضا فيلمياً من نوع جديد، حيث تتعدد معاني كلمة سينما، كونها، بالآن ذاته، نظام أشكال، وصالة عرض، تماماً مثل كلمة مسرح.
في عام 1961، استخدم الأمريكي «جورج ماسيوناس» مفردة فلوكسوس للمرة الأولى، وجمع حولها فنانين تجريبيين محطمين للمعتقدات، والأفكار السائدة، ومتشبعين بفلسفة Zen، وتعاليم الموسيقيّ «جون كييج»، وأعمال الفنان الفرنسي المفاهيميّ «مارسيل دوشا».
Zen for Film (فلوكسوس رقم 1) عام 1964 للكوري «نام جون بيك» (1932-2006) هو فيلمٌ/منظومة سينمائية، عبارة عن شريط خامّ يُعرض باستمرار، وبدون توقف، ومع الوقت، يتراكم فيه قليل من الغبار، وتبدأ الخدوش في التأثير على سطحه، بدون بداية، ولا نهاية، ينشأ العرض، ويتجسد من مادية الشريط، وألة العرض، بتحويل النظر إلى خلفية الكواليس، «نام جون بايك»، وفي لفتةٍ على طريقة «مارسيل دوشا»، رفع الآلة، والغبار إلى رتبة عمل فنيّ، بالمرور بجهاز العرض، يراكم الشريط آثار الزمن الذي يمضي، فيلم ميتافيزيقيّ، Zen for Film هو تفكيرٌ حول، وعن المنظومة السينمائية.

البوب آرت

استهوت «أندي وارول» (1928-1987) صناعة السينما، وهكذا استخدم صور النجوم مباشرةَ لرسوماته المطبوعة عن طريق الاستنسل، ولكن، يمكن أن تبدو أعماله الفيلمية متقشفة، ومتزمتة بالنسبة لعاشق لـ»مارلين مونرو»، ومع رغبته الطوباوية «أن يكون آلة»، كانت الكاميرا بمثابة أداة مثالية من أجل عدم التدخل مباشرة في إخراج العمل، في Empire، الذي تمّ تصويره خلال ليلة 25 يوليو 1964، مشهدٌ واحدٌ تستغرق مدته الزمنية ثماني ساعات لرمز يمثل عظمة نيويورك، مبنى أمباير ستيت.
بتمديد الزمن، كما لو كان لا يفعل شيئاً إلا استعادة الواقع فقط، التصوير يحول الفيلم إلى لوحةٍ، أو صورة، ويخلق علاقةً هوسية معها، ويزيل عنها أيّ حياة للصورة المتحركة (أو كما يُقال في حالة حركة).
بعد الحرب العالمية الثانية، سوف تشهد الولايات المتحدة على ازدهار الطليعة الجديدة، وقربها الجغرافي من أكبر صناعة للسينما سوف يُسهل استخدام الكاميرا من طرف الفنانين، ومن مختارات المدارس تلك، ما يزال بالإمكان الإشارة إلى الفن التبسيطيّ مع الإيماءات المصوّرة لـ»ريتشارد سيرا»، والفن المفاهيميّ مع أفلام «روبرت موريس».

المصدر: باتريسيا مانسان، منصة «مركز جورج بومبيدو» بباريس.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة