عمرو حمزاوي
ملخّص: إن الأصوات الديمقراطية لا تكره الدولة الوطنية أو تسعى إلى إفشالها وتقويضها وهدمها، بل هي تدرك أن ما من فرص فعلية لبناء الديمقراطية، من دون دولة وطنية قوية.
لم يعد للأنساق الأخلاقية وللقيم الإنسانية للمصريين ملاذات آمنة بعيدا عن وضعية استقطاب مجتمعي التي تصطنع بينهم العداء والكراهية، وبعيدا عن مجال عام رديء يغيب المعلومة والحقيقة والتعبير الحر عن الرأي واحترام الاختلاف ويستبدل كل ذلك بفرض للرأي الواحد وللصوت الواحد وبعبث تخوين وتشويه المختلفين مع السلطوية. لم يعد للأنساق الأخلاقية والإنسانية من ملاذ بعيدا عن سياسة أميتت كنشاط سلمي وتعددي وتنافسي يستهدف صالح الدولة والمجتمع وحلت محلها صناعات الاستبداد المصرية التقليدية، حكم الفرد الذي يروج له كبطل منقذ ونشر الخوف بين الناس من «أعداء الداخل والخارج» وتوظيف نظريات المؤامرة لتمرير المقايضة السلطوية الأمن والخبز مقابل الحق والحرية. لم تعد تلك الأنساق في مأمن، وزج بشبكات الإدراك الفردي والجماعي وبطرق التعبير اللغوي والحركي والمادي عن قناعات وتفضيلات الناس إلى خانات مظلمة ومساحات مريضة تتعثر بها القدرة على رفض الدماء والظلم والانتهاكات والتعبير عن التعاطف والتضامن مع الضحايا وتتعثر بها القدرة على الدفاع عن كرامة الإنسان وحرمة جسده وروحه من دون معايير مزدوجة.
صار البعض يصفق للدماء ويهتف مرحبا بتصفية من يصنفون كأعداء ويهلل لانتهاك حرياتهم بالعنف والظلم والقمع ولذبح كرامتهم بالتخوين والتشويه والاغتيال المعنوي، لا يختلف هنا المتشفون في ضحايا الجيش والشرطة والضحايا المدنيين الذين يسقطهم الإجرام الإرهابي عن المتشفين في قتلى وضحايا فض الاعتصامات ولا عن المبررين للاعتقالات ولانتهاكات الحقوق والحريات. لم تعد الأنساق الأخلاقية والإنسانية في مأمن، فقد صار التعبير العلني عن التضامن مع ضحايا الظلم ظاهرة نادرة واحترام فواجع وآلام المظلومين وأضحى تغليب الشعور الإنساني الطبيعي بالتعاطف على ثنائيات «المع والضد» وكارثة رفض المختلفين.
لكل ذلك، يتعين على الأصوات المدافعة عن الحقوق والحريات والديمقراطية الاعتراف بالهزيمة المرحلية لمشروع التغيير الذي أعقب 2011. بحسابات اليوم، تعتاش السلطوية الجديدة على الهزيمة هذه منذ أدارت الخروج على الديمقراطية في صيف 2013 ومنذ انحازت إليها أغلبية المنتسبين زيفا إلى الفكرة الليبرالية وإلى اليسار الديمقراطي في تنصل كارثي من المبادئ والقيم المدونة في كتبهم وفي خطيئة كبرى لا تقل تداعياتها مأساوية عن خطايا جماعة الإخوان المسلمين في عام حكمهم 2012-2013 حين عصفوا بمنطق الدولة بتكريس ثنائية «الرئيس المنتخب والجماعة المغلقة المستأثرة بالأمر من وراء ستار» وانقلبوا على قاعدة التوافق الوطني وتناسوا أولويتها لإدارة التحول الديمقراطي وورطوا مصر في صراعات هوية شكلت حاضنة للاستقطاب المجتمعي وللتطرف الديني والطائفي والمذهبي.
باتت مظاهر الوهن تحيط بالأصوات المدافعة عن الحقوق والحريات، من كتابات صارت عرائض شكوى وصياغات نواح ويأس وتعليقات تستنفد طاقتها في الكثير من تعبيرات الغضب ومقولات الاستهزاء بالآخر بينما يتراجع عمقها المعرفي والفكري الذي ربما حرك بعض المياه الراكدة إن أعيد اكتشافه. والبداية الحقيقية للتغيير هي الاعتراف بالهزيمة المرحلية دون استعلاء زائف والابتعاد عن المساحات التي أخضعتها السلطوية لسيطرتها والبحث عن مساحات بديلة للمطالبة السلمية بالعدل والحق والحرية وبالديمقراطية وفقا لرؤية واقعية وواضحة. فقد أصبح الاقتراب اليومي من المواطنين وأزماتهم الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية ضرورة وجود للمدافعين عن الحقوق والحريات شأنه شأن المزج بين أجندة الحقوق والحريات وبين أجندة تشتبك مع هموم الناس وتطلعاتهم وآمالهم. أصبح ضرورة وجود أيضا أن تدلل الأصوات الديمقراطية على اكتراثها بمقتضيات الأمن القومي لمصر واهتمامها ببلورة رؤية لكيفية مواجهة الإرهاب والتحديات الأخرى التي ترد على استقرار البلاد انطلاقا من أن الحفاظ على الدولة الوطنية أولوية، وأن الظلم وغياب العدل والحق والحرية وسيادة القانون يهدد تماسك الدولة الوطنية وفاعلية مؤسساتها، وأن بناء الديمقراطية ضرورة لسلم المجتمع وتقدمه ولسعادة المواطن، وأن الدفاع عن الأمن القومي لمصر مع تراكم أزمات الداخل وفي محيط إقليمي غير مستقر وعنيف يقتضي تكاتف الجميع بابتعاد الحكم عن انتهاكات الحقوق والحريات وبالتزام المعارضة بالعمل السلمي داخل حدود الوطن.
ليست الأصوات الديمقراطية بكارهة للدولة الوطنية أو باحثة عن إفشالها وتقويضها وهدمها، بل هي تدرك انعدام الفرص الفعلية لبناء الديمقراطية دون دولة وطنية قوية. ليست الأصوات الديمقراطية بكارهة للمؤسسة العسكرية وللأجهزة الأمنية أو رافضة دوما وجملة وتفصيلا لتوظيف القوة الجبرية في مواجهة ظواهر الإرهاب والعنف، بل هي تريد مؤسسة عسكرية وأجهزة أمنية احترافية وتمزج بين الإدراك الواضح لكون احتكار القوة الجبرية حق وجود للدولة وكون توظيفها ضرورة للتغلب على الإرهاب والعنف وبين الإصرار على أن الاحتكار هذا لا يعني العصف بسيادة القانون وضمانات الحقوق والحريات. ولا يتعارض الحفاظ على الأمن القومي مع صون حقوق وحريات المواطن والامتناع عن انتهاك حرمة حياته الخاصة والالتزام بسيادة القانون، فانتهاك حقوق وحريات المواطن يغيب العدل ويراكم المظالم ويهدد السلم الأهلي الذي يمثل مكونا أساسيا للأمن القومي بمعناه الشامل. ولا يستدعي الحفاظ على الأمن القومي حجب كل المعلومات المتعلقة بالسلطات العامة ومؤسسات وأجهزة الدولة وفرض سياج من السرية على سياساتها وقراراتها وممارساتها. فقد استقرت دساتير وقوانين الدول الحديثة على إقرار حق السلطات العامة ومؤسسات وأجهزة الدولة في حجب بعض المعلومات ذات الصلة بالأمن القومي عن المواطن والرأي العام وفي إلزام شاغلي المناصب العامة (إن بالانتخاب أو التعيين) بالحفاظ على السرية (لآجال زمنية تحددها القوانين) حتى حين يتركون مناصبهم. إلا أن الانحراف غير الديمقراطي يبدأ عندما يتحول الحجب إلى نمط دائم والسرية إلى ممارسة شاملة وعندما تمرر نصوص دستورية وقانونية تحمي الحجب والسرية باسم الأمن القومي وتأتي على حق المواطن في حرية تداول المعلومات وفي معرفة الحقائق.
عمرو حمزاوي
تشمل أبحاثه الديناميكيات المتغيّرة للمشاركة السياسية في العالم العربي، ودور الحركات الإسلامية في السياسة العربية.
مركز كارنيغي للشرق الاوسط