كما هو الحال في مختلف جوانب الحياة المادية والقيمية على تضاريس هذا الوطن المنكوب، وما تعرضت اليه من مسخ وتشويه، لم ينجو العمل والنشاط في حقول (القانون) من نتائج وفواتير ذلك العصر الذي ما زالت قيمه وتقاليده مستمرة الى يومنا هذا. ومن خلال جرد بسيط لنوع المخلوقات التي تسللت سريعاً الى تمثيل هذا الحقل الحيوي وفي جميع حركاته (قعودا وقياماً وما بينهما من حركات)؛ بمقدورنا التعرف على الكثير ممن يجيدون نقل رطانتهم من كتف الى كتف آخر بمنتهى الخفة والرشاقة. مخلوقات تفتقد لأدنى مستلزمات وشروط هذه المهنة الجليلة (القانون)، نجحت في تصدر مسرح الاحداث، ساعدها في ذلك مناخات ما يعرف بـ (الفوضى الخلاقة) والتي تحولت بهمة مثل هذه المخلوقات الفاسدة والشرهة؛ الى فوضى هدامة وملتبسة وسط وابل من قذائف الرطانة القانونية المتخصصة بادامة خراب المجتمعات والدول.
عندما تصر وسائل ومنصات ومنابر اعلام ما بعد حقبة الفتح الديمقراطي المبين، ومن شتى الواجهات والعناوين؛ على دعوة واستضافة هذا النوع من المخلوقات (ابواق الرطانة والصلافة والديباجات)؛ فهي تكشف عن طبيعة التناغم بينهما، فهما يكملان بعضهما البعض الآخر. فلا الاعلام يتجرأ على الاقتراب من القضايا والملفات المهمة لمرحلة العدالة الانتقالية، ولا هذه المخلوقات الممثلة لأسوأ انواع ذلك السكراب الذي اورثنا اياه النظام المباد، بمقدورها الالتفات لكل “طيحان الحظ” الذي انخرطت به. اننا اليوم بأمس الحاجة الى نوع من الملاكات القانونية المغايرة تماماً لكل هذا الطفح “القانوني” الذي وصل مبكراً الى الوليمة. ملاكات لم تلوث رصانتها ومكانتها بالتذلل والتزلف لمجرمي ولصوص النظام المباد ولا لورثة اسلابه وقيمه الحاليين. هذه الحاجة هي من مستلزمات وشروط انجاز وظائف ومهمات العدالة الانتقالية وما يعقبها من تعزز لسلطة الدولة الحديثة وتشريعاتها، وهذا ما أكدته تجارب الشعوب والامم التي واجهت مثل هذه التحديات والملفات الشائكة. أما لدينا فقد شرعت الأبواب أمام فاقدي هذا الشرط (الرصانة) لكي يتصدروا المشهد الملتبس اصلاً، ليزيدوه بؤساً وغرائبية وفقداناً للمعايير.
في ظل هذه الاوضاع والمعايير المقلوبة، حيث يهمش ويبعد الانسان المناسب عن المواقع التي تليق بما يمتلكه من مواهب واستعدادات لخدمة الشان العام، لصالح حطام البشر؛ يستأسد القضاء والقانون بوجه صغار الفاسدين والمجرمين، ويضمحل لحد التلاشي أمام الفاسدين والمجرمين الكبار. مثل هذه المواقف والسلوكيات لا يمكن أن تؤسس لا للدولة ولا للقانون، وتاريخنا الحديث (قبل التغيير وبعده) حافل بالاحداث والجرائم والمحطات والفضائح والسرقات الاسطورية التي ما زالت تنتظر جيل من العاملين في مجال القانون يعي جوهر هذه المهنة والوظيفة أي (روحها) التي تنتصر لحرية الانسان وحقوقه وكرامته، لا الرطانة والديباجات الجامدة المتاحة لكل من هب ودب، من أشباه القانونيين الذين يفتلون عنق ما تتضمنه المدونة القانونية من قوانين وتشريعات، لصالح مآربهم الضيقة ونزعاتهم الشرهة. ان هيبة الدولة والمجتمع تعتمد على نوع العاملين في مجال القانون (كقضاة ومحامين ومدعين عامين وكتاب عدول و…) ومن دون التصدي لكل هذا الخراب والحطام الذي تفشى فيه؛ لا يمكن انتظار نتائج فعلية لتقويم باقي مجالات الحياة المادية والقيمية في هذه البلاد التي قذفتها الاقدار الى اعلى مراحل الفرهدة؛ أي الى الحوسمة..!
جمال جصاني