لماذا يكذب القادة؟

حقيقة الكذب في السياسة الدولية

الحلقة 6

يعد الخداع الحاوية الرئيسة للكذب وهو سلوك بشري يستهدف طمس الحقيقة عن بشر أخرين وهو سلوك عادة ما يكون له هدف وقد يكون ذلك الهدف احيانا نبيلا كما يرى مؤلف كتاب “لماذا يكذب القادة”.
على المستوى الفردي وبين البشر هنالك في الاقل 31 نوعا من انواع الكذب يمارسه البشر فيما بينهم ومع ذلك فان عموم ثقافات البشر تتعامل مع الكذب على اساس انه فعل ممجوج مكروه ويعكس انخفاضا في القيم او هكذا يفترض والكذب كما وصفه ايمانويل كانت اكبر انتهاك يقوم به الفرد ضد نفسه، ومع ذلك لا يتورع الناس عن ممارسته والتفنن فيه حتى صار يبدو جزءا اساسيا من تعاطي البشر مع ذواتهم ومع محيطهم ومع ان الناس تمارس الكذب باشكال مختلفة ومستويات متنوعة فانهم في المجمل لا يقرون بكذبهم بل يبررونه وبالطبع لا احد يقبل ان يوصف بانه كاذب.
لزمن طويل استمر البحث عن تفسير الحدث السياسي في إطار السؤال التالي: هل الاحداث التاريخية الكبرى ليست الا نتيجة طبيعية لتغير ونضج ظروف مجتمعية واقتصادية وسياسية؟ ام ان هناك دورا فاعلا وحقيقيا ومؤثرا للافراد في خلق تلك الاحداث؟
هل أن التحولات السياسية الكبرى هي جزء من عجلة التاريخ؟ هل التغيرات التاريخية تحدث لاسباب ومعطيات اجتماعية؟ فان كانت كذلك فما دور الفرد في هذه المتغيرات وهل للفرد وسلوكه أثر ما في تلك المتغيرات أم أنه مجرد عنصر صغير بسيط الاثر لا يستحق الدراسة الا بقدر؟
كما يحاول الكتاب رصد ظاهرة الكذب وتحليلها في اطار العلاقات الدولية باسلوب رشيق ورصين فالكتاب في حالته هذه موجه الى عموم الناس وقابل للهضم والفهم والاستيعاب بعيدا عن التعقيدات الاكاديمية برغم ان مؤلفه البروفيسور ميرشيمر اكاديمي متميز وهذا الكتاب محاولة جريئة ومستحقة تحسب للمؤلف الذي اعتاد طرق المواضيع غير التقليدية.
بطبيعة الحال كان التركيز على الولايات المتحدة من دون اغفال العديد من التجارب الاخرى ومن الواضح ان المؤلف قد بذل جهدا كبيرا في رصد ظاهرة الكذب عبر التاريخ في العديد من الدول الغربية ولم ينس في ذلك كذب اسرائيل على العالم لتبرير احتلالها واغتصابها لفلسطين خصوصا انه كان قد وضع للمكتبة الدولية كتابه المهم والمؤتمر “اللوبي الاسرائيلي وسياسة الولايات المتحدة الاميركية الخارجية” الذي خلق جدلا واسعا ومازال داخل اميركا وخارجها. ويبدو ان توافر المعلومات والدراسات والوثائق في المحيط الغربي كان مبررا منطقيا للتركيز على ظاهرة الكذب الدولي في الغرب.
ومع ان البروفيسور ميرشيمر كان قد انطلق من فرضية ان هناك وظيفة قد تكون مفيدة للكذب في السياسة الدولية وعالجها بعمق مبينا اين من الممكن ان تحدث الاختلالات والانتكاسات للكاذبين من السياسيين فانه أكد في المقابل ان حالات الكذب التي تعامل معها هي تلك التي يطلق عليها الكذب الاستراتيجي الذي يتوخى في مساعيه تحقيق مصلحة عامة وطنية.
بالطبع نقف هنا أمام اشكالية تحديد ماهية المطامح الشخصية والانانية وهل ممكن ان يكون البقاء في السلطة وتحطيم الخصوم داخليين كانوا او خارجيين جزءا من اهداف ومساع شخصية السؤال الذي يظل مفتوحا وتحدده طريقة تعريفنا للكذبة الاستراتيجية وهي مسألة متصلة وخاضعة لمزيد من المراجعة فالمؤلف اوضح أنه على عتبات مجال جديد سيحتاج الى مزيد من البحث والتمحيص.

تأليف: جون جي. ميرشيمر

ترجمة.. أ.د. غانم النجار

كتب الباحث افي شليم من جامعة اكسفورد قائلا :<<ان مذبحة قرية قبية قد اطلقت العنان لاحتجاج عالمي ضد قسوة غير مسبوقة لإسرائيل في تاريخها القصير >> . وكذلك سببت الاخبار الفظيعة عن الهجوم مشكلات جمة للحكومة الإسرائيلية في الجبهة الداخلية . واستشعارًا للمشكلات المحتملة على المستوى الداخلي , فضلا عن الضرر الذي اصاب سمعة إسرائيل دوليا , حاول قادة إسرائيل انقاذ الموقف عن طريق الكذب .
فقد كتب المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس : <<في 19 اكتوبر , ظهر رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون متحدثا على الهواء برواية مختلفة عما حدث >> . فرمى اللوم في المذبحة على مستوطني الحدود اليهود , حيث قال << ان الحكومة الإسرائيلية بدورها تدين بشدة الاتهام السخيف ان 600 رجل من القوات النظامية الإسرائيلية قد اشتركوا في تلك الفعلة … وقد حققنا في الامر ,فأتضح لنا , بما لا يدع مجالا للشك , انه لا توجد اي وحدة عسكرية لم تكن في قواعدها في ليلة الهجوم على قبية >> غير ان كذبة بن غوريون لم تنطل على احد . حيث اصدر مجلس الامن في 24 نوفمبر بيانا شديد اللهجة يندد فيه بالعملية .
كما قد يكذب القادة لتغطية موضوع مثير للجدل لأنهم مقتنعون بأنه سليم استراتيجياً , ولكنهم يريدون اخفائه عن جمهورهم , او ربما عن الدول الأخرى .
والمعنى الضمني هنا ان اغلبية مواطنيهم ليست لديهم الحكمة الكافية لإدراك المعاني والمضامين البعيدة لهذه السياسة , لذا فأنه من المنطقي للقادة تبني استراتيجية او سياسة ما واخفاؤها عن الجمهور , والا فقد يجبر الرأي العام الحكومة على التراجع عنها , الامر الذي قد يضر بمصلحة الدولة ومن هنا ندرك ان منطق التقييم القاسي نفسه يعجز الجمهور عن التفكير السليم يتبع في إثارة الذعر , وكذلك في التغطيات الاستراتيجية . كانت جهود الرئيس جون كنيدي , المضنية لحسم ازمة الصواريخ الكوبية بطريقة سلمية مثالا حيا لرئيس يكذب من اجل ان يخفي سياسة مثيرة للجدل . ولكي ينهي الازمة قبل ان تتصاعد الى حرب بين القوتين العظيمتين , وافق كنيدي على طلب السوفييت ان تسحب الولايات المتحدة , منظومة صواريخها النووية جوبتير من تركيا مقابل سحب السوفييت صواريخهم أيضاً من كوبا . وكان كرئيس كنيدي يعلم تماماً ان هذا التنازل قد لا يقبله الرأي العام الاميركي , وكذلك اليمين السياسي , ويمكن كذلك ان يؤثر سلباً في علاقة واشنطن بحلفائها في حلف الناتو , وبالأخص تركيا ولذلك اشترط على السوفييت ان لا يتحدثو عن هذا الاتفاق علنا , والا فأنه سينكره ويتراجع عنه نهائياً . وعلى الرغم كل هذه الحيطة والحذر في اخفاء المعلومة , كانت هناك بعض الشكوك في الغرب بأن اتفاقاً قد ابرم , ووجهت اسئلة بهذا الخصوص الى الحكومة الاميركية . كذب الرئيس وكبار مستشاريه , وانكروا وجود اتفاق لسحب منظومة صواريخ جوبتير من تركيا وعند النظر الى الحدث الآن , سيبدوا ان ما فعله كنيدي كان كذبة بيضاء استطاعت ان تنزع فتيل المواجهة الخطيرة بين دولتين تمتلكان أسلحة نووية .وفي الفترة الواقعة بين العامين 1922 و1933 . تلقى الجيش الألماني تدريبات عسكرية في الاتحاد السوفييتي , مما مثل خرقا لاتفاقية فرساي . وكان القادة الألمان يتوجسون من ان يعرضهم اكتشاف هذه الأنشطة لانتقادات حادة من اليساريين في جمهورية فايمار الألمانية , وكذلك من بريطانيا وفرنسا اللتين ستسعيان الى وقف هذه الانشطة غير القانونية . اذن لم يكن مستغربا ان تكذب ألمانيا لاخفاء ذلك الاتفاق . كما ان هناك حالة أخرى تعدّ اكثر إثارة للجدل حدثت في بريطانيا في أواسط الخمسينيات , عندما بدأ البرلمان يسمع قصصاً عن معسكرات العمل الالزامي التي اقامتها الحكومة الاستعمارية في كينيا لمقاتلي حركة << الماو ماو >> التحررية .
وقد كانت الحكومة البريطانية تخشى تداول هذا الموضوع إعلامياً , فيجبر الرأي العام الحكومة على انهاء سياستها القمعية في كينيا , مما سيعني الانتصار لحركة <<الماو ماو >> وان حدث ذلك فأن الأمر لن يكون في مصلحة تماسك الإمبراطورية البريطانية . وللتعامل مع تلك التسريبات القوية , كذب القادة البريطانيون بشأن وجود معسكرات القمع , وهاجموا بحدة كل من كشفوا عن تلك الممارسات .
أخيراً , نعرف الأن ان اليابان قد عقدت عدة اتفاقيات سرية مع الولايات المتحدة في اثناء الحرب الباردة فمثلا , سمحت طوكيو في العام 1969 للسفن الاميركية المحملة بالسلاح النووي بأن ترسو في الموانئ اليابانية . وكذلك هناك اتفاقية سرية تضمن انه على اليابان ان تدفع الجزء الاكبر من تكاليف الوجود العسكري الاميركي على اراضيها ومن المؤكد ان جدلا واسعا كان سيثار حينها لو كشف عن هذه الاتفاقيات والحقيقة ان الاحتجاج القوي المتوقع من الجمهور الياباني كان من شأنه ان يلغي تلك الاتفاقيات .
لى اي حال , يمنع القانون الياباني مرور السفن المحملة بالأسلحة النووية بالموانئ اليابانية .
مع ذلك رأت القيادة اليابانية ان تلك الاتفاقيات تخدم المصلحة الوطنية لليابان , ولذا تكتمت عليها ولم تعلنها للملأ . لكن لم يطل الزمن حتى بدأ البعض يشك في اتفاقيات كهذه قد جرى توقيعها , وبدأت الاسئلة تنهال على قيادات الحكومة اليابانية , ولكم يكن مستغربا انهم كذبوا وانكروا وجود تلك الاتفاقيات من الاساس .

متى يصبح استعمال التغطيات الاستراتيجية اكثر احتمالا ؟
من الواضح ان معرفة متى يعد استعمال التغطيات الاستراتيجية اكثر احتمالا هي امر بالغ التعقيد , ويعود ذلك الى ان هذا النوع من الخداع يتضمن سلوكين اخفاء تقصير وفشل ما , واخفاء سياسات مثيرة للجدل , وجمهورين مختلفين, جمهور الدول الأخرى , والجمهور الداخلي للقائد .
فلنبدأ أولا في فحص السؤال حول متى تكون احتمالية كذب القائد اكبر لأخفاء سياسة فاشلة او مثيرة للجدل عن دولة أخرى ليس غريباً ان تنطبق الظروف التي تدفع القادة الى الكذب على الدول على التغطيات الاستراتيجية في كلتا الحالتين . يكذب القادة على دولة أخرى فيما يرون انه يخدم المصلحة الوطنية وهذا يعني ان الاكثر احتمالا ان يعمد القادة الى التغطية الاستراتيجية الموجهة الى جماهير أجنبية عندما تكون دولتهم في الحالات التالية :
1.تقع في اقليم خطر .
2.متورطة في ازمة .
3.في حالة الحرب .
4.تتعامل مع منافس وليس مع حليف .
ان التغطية الاستراتيجية , بالطبع ليست فقط نوعاً من الكذب بين الدول بل هي اكثر من ذلك : فالقادة يوجهون تلك الأكاذيب الى شعوبهم والى العالم الخارجي والتكتم على الفشل وعجز الادارة غالباً ما يحصل في زمن الحرب , وبالاخص اذا كانت الحرب من اجل البقاء وفي هذه الظروف , حين تكون المخاطرة بوجود الوطن عالية , يضطر القادة الى الكذب على شعوبهم , ان وجدوا الى ذلك ضرورة , ليتفادوا الهزيمة ويكسبوا الحرب .
وعلاوة على ذلك يكون اخفاء الاخطاء عن الجمهور في اثناء الحرب سهلا نسبياً , لانهم في ظروف يكون بيد الحكومة فيها الكثير من الصلاحيات لتقييد حرية تدفق المعلومات والتلاعب بها , مبررة ذلك بحالة الحرب , كذلك لأن الخداع يعد أمراً مقبولا خلال الصراع مع عدو شرس , واخيا , فأن حدوث فشل عملياتي على الارض بصورة او بأخرى هو امر اعتيادي في أي صراع , مما يعني وجود فرص ودوافع كثيرة لاستعمال التغطية الاسترتيجية .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة