مايكل آيزنشتات – و سونر چاغاپتاي
يزور وفد أميركي حاليًا أنقرة من أجل تحديد تفاصيل «منطقة آمنة» تقترحها تركيا على طول الحدود السورية الشمالية الشرقية. وتأتي هذه المحادثات بعدما أعلن الرئيس ترامب أولًا سحب الولايات المتحدة جنودها البالغ عددهم ألفي عنصر من سوريا، ليوافق بعدها على إبقاء 200 جندي في الشمال الشرقي و200 في الجنوب. كيف يمكن لخفض العدد هذا أن يؤثر على آفاق إقامة المنطقة العازلة المقترحة والحفاظ عليها؟ وما هي تداعيات هذه المنطقة على مصالح الولايات الأمريكية في سوريا وخارجها؟
الوعود الأميركية
والمخاوف التركية
برغم أنّ الرئيس ترامب كان يلتزم بتعهد متكرر كان قطعه خلال حملته الرئاسية عندما أعلن عن الانسحاب الكامل في ديسمبر/ كانون الأول، إلّا أنّ كثيرين قد اعتبروا القرار خطوة متسرعة يمكنها أن تزعزع التوازن الهش الذي أرساه الوجود العسكري الأمبركي في سوريا. وخلال تنفيذ مهمتها لدحر «الدولة الإسلامية»، اعتمدت القوات الأميركية لمدة طويلة على «وحدات حماية الشعب» السورية الكردية– وهي حليفة محلية فعالة ولكنها في الوقت عينه أحد فروع «حزب العمال الكردستاني» المصنف منظمة إرهابية من الولايات المتحدة والذي يخوض حربًا مع الحكومة التركية منذ عقود.
في البداية، سمحت أنقرة مكرهةً بالتعاون بين الولايات المتحدة و»وحدات حماية الشعب» إذ أصرّت واشنطن على ضرورة دحر «الدولة الإسلامية». لكن صبر تركيا بدأ ينفذ مع تراجع وتيرة العمليات العسكرية التقليدية الكبيرة ضدّ التنظيم. وقد اعتمد الرئيس رجب طيب أردوغان ومسؤولون آخرون خطابًا أكثر عدائية تجاه «وحدات حماية الشعب»، مهددين بتنفيذ المزيد من التوغلات في شمال شرق سوريا بهدف القضاء على ما يعتبرونه وجودًا إرهابيًا على حدودهم. ولم يتمّ الاستخفاف بهذه التحذيرات نظرًا إلى تدخلات تركيا السابقة بشكل أعمق في الغرب السوري عام 2016 و2018 الرامية إلى الحؤول دون بروز منطقة متاخمة تسيطر عليها «وحدات حماية الشعب» على طول الحدود الشمالية.
ومع مرور الوقت، أسفر الوجود العسكري الأميركي عن حدوث تطورين مهمين. أولًا، كان أساسيًا لتشكيل «قوات سوريا الديمقراطية»، وهي مجموعة مظلة بقيادة «وحدات حماية الشعب» تشمل عدة ميليشيات قبلية عربية. وبرغم طبيعة تحالفهم غير السهلة مع الأكراد، لعب المقاتلون العرب دورًا مهمًا في تفكيك «خلافة» تنظيم «الدولة الإسلامية»، ويمكن لهذه الشراكة أن تكون أساسية لإبقاء المنظمة الجهادية محاصرة. وثانيًا، حال الوجود الأميركي دون إقدام إيران ووكلائها على إنشاء مسار بري شمالًا عبر سوريا وصولًا إلى البحر المتوسط. وتواجه واشنطن الآن المهمة الصعبة المتمثلة بإرساء التوازن هناك من خلال تهدئة المخاوف الأمنية التي تنتاب حليفتها تركيا من جهة وضمان أن الأحداث في شمال سوريا لا تمهد الطريق أمام عودة «الدولة الإسلامية» أو حدوث اضطرابات أوسع في المنطقة.
مفهوم تركيا للمنطقة الآمنة
طرحت أنقرة فكرة منطقة آمنة/عازلة للمرة الأولى عام 2014، لتعيد وتحييها بعد إعلان ترامب سحب قوات بلاده، محذرةً من أنها ستقيم المنطقة بشكل أحادي في حال لم تساعدها واشنطن. ولتحقيق هذه الغاية، تردد أنها حشدت 16 ألف جندي تركي وعشرة آلاف مقاتل من الثوار العرب على مقربة من المناطق الخاضعة لسيطرة «وحدات حماية الشعب» من حدودها. وفي حال تنفيذها، من شأن خطة تركيا أن تنطوي على دفع «وحدات حماية الشعب» خارج الحدود وإقامة إدارة مدنية وقوات أمن محلية خاضعة لسيطرتها واستخدام الأراضي الواقعة ضمن تلك المنطقة لإعادة توطين حوالى 3.5 ملايين لاجئ سوري يتواجدون حاليًا في تركيا. كما ستمنح منطقة مماثلة أنقرة نفوذًا أكبر على نظام الأسد.
لكن تدرك تركيا تمامًا أنها ستواجه تحديات سياسية واقتصادية وعسكرية خطيرة في حال نفذت خطوة مماثلة بشكل أحادي، بخاصةٍ لأن الولايات المتحدة وروسيا وسوريا وإيران حذرتها جميعها من القيام بذلك. فقد هدد الرئيس ترامب بـ»تدمير» اقتصاد تركيا في حال تعرّض الأكراد السوريون للهجوم. ومن جهته، ما يزال نظام الأسد مصممًا على استعادة سائر مناطق البلاد، لذا قد يحاول تقويض موقف تركيا من خلال تشجيع الهجمات بالوكالة داخل منطقة منشأة من جانب واحد.
وقد يتسبب الوضع الديمغرافي والجغرافي السياسي المعقّد في شمال شرق سوريا بمشاكل لتركيا أيضًا. فبحسب فابريس بالانش، يقيم نحو 850 ألف شخص حاليًا في المنطقة المقترحة التي يصل عمقها إلى 20 ميلًا ويحدّها نهر الفرات من الغرب ونهر دجلة من الشرق. وهم يتألفون من 650 ألف كردي (76 في المئة) و180 ألف عربي سنّي (21 في المئة) وعشرة آلاف من التركمان (1 في المئة) وعشرة آلاف مسيحي (1 في المئة). وواحدة فقط من المحافظات الخمس المتداخلة في المنطقة (تل أبيض) تضمّ أغلبية عربية.
بعباراتٍ أخرى، سيكون الجزء الأكبر من السكان المتأثرين بذلك من الأكراد، رغم أنّه من المفترض أن تستثني المنطقة القامشلي (وهي مدينة كبيرة ذات أغلبية كردية تخضع بشكل جزئي لسيطرة الجيش السوري) وكوباني (وهي بلدة حدودية ذات أغلبية كردية الأرجح أنّها ستبقى من الجيوب الخاضعة لسيطرة «وحدات حماية الشعب»). ولا شكّ في أن العديد من هؤلاء الأكراد يفضلون الوضع القائم وينظرون إلى تركيا باعتبارها قوة احتلال معادية، مفضلين الحكم السوري إن اضطروا إلى الاختيار بين الاثنين. وتشير التقارير المتناقلة إلى أن العديد من السكان العرب يفضلون الوضع القائم بدورهم برغم أنهم يبدون أكثر استعدادًا للاصطفاف إلى جانب تركيا في حال تدخلت.
باختصار، قد تصبح منطقة آمنة تنشئها تركيا بشكل أحادي مسرحًا للخلاف بين نظام الأسد وأنقرة، وبين الجماعات العربية التي ترعاها تركيا و»وحدات حماية الشعب»، وبين الأكراد واللاجئين العرب العائدين. وبدوره، قد يوفّر ذلك بيئة مؤاتية لعودة «الدولة الإسلامية». ولا يصب أي من هذه السيناريوهات في مصلحة تركيا أو واشنطن، ولهذا السبب حاولت أنقرة جاهدة إقناع الولايات المتحدة بالتعاون معها في منطقة لا تقوم على التدخل التركي.
واشنطن تحاول إقناع الحلفاء
على ضوء مخاوف مماثلة، وافق الرئيس ترامب مؤخرًا على إبقاء بعض الجنود الأميركيين في سوريا وطلب من الحلفاء الأوروبيين منذ ذلك الحين إرسال جنودهم بغية التعويض عن النقص الذي ستخلفه مغادرة القوات الأميركية وحراسة المنطقة الآمنة المحتملة على حدّ سواء. ولتحفيز الحلفاء، تعهدت واشنطن بتوفير المعلومات الاستخباراتية والدعم اللوجستي مع عرض نشر قوة ردّ سريع في العراق. غير أنّ بغداد رفضت هذه الفكرة الأخيرة، كما أنّ العديد من الدول الأوروبية رفضت حتى الآن دعوات للمساعدة– نظرًا إلى ميل الإدارة إلى اتخاذ قرارات أحادية غير متوقعة، فضلًا عن المخاوف من عدم إمكانية التعويل عليها في حال تفاقمت التحديات في المنطقة المقترحة أو من قيامها بتحويل مهمة مناهضة «الدولة الإسلامية» إلى مهمة مناهضة إيران، وهو أمر لن تدعمه. ولا يبدو أنّ عرض الولايات المتحدة المشار إليه بإبقاء 200 جندي أميركي في شمال شرق سوريا و200 جندي آخر في التنف جنوبًا قد بدّل آراء الحلفاء. ففي حين قد يتيح تخفيف التواجد الأميركي للولايات المتحدة مواصلة بعض العمليات الأساسية لتنفيذ مهمتها (توجيه ضربات جوية على سبيل المثال) وحماية «قوات سوريا الديمقراطية» من التفكك، إلا أنه قد يشجع أعداء أميركا على إطلاق هجمات بالوكالة ضدّ قوات التحالف بهدف تقويض المهمة كما فعلوا في أماكن أخرى في الماضي.
التداعيات على
العلاقات الأميركية-التركية
يتردد أنّ واشنطن وأنقرة تعدان محادثات المنطقة الآمنة تدبيرًا يبني الثقة بعد مشكلات صعبة اعترت العلاقات الثنائية. كما يمنح الاقتراح الرئيس ترامب ميزة على نظيره التركي في وقت يجهّز فيه الأخير حزبه للانتخابات المحلية التي ستجري على مستوى الوطن في 31 مارس/ أذار. ومن شأن منطقة آمنة تقيمها الولايات المتحدة تنجح في إبعاد «وحدات حماية الشعب» عن جزء كبير من الحدود أن تعزّز مكانة أردوغان القومية وتزيد حظوظ حزبه في صناديق الاقتراع.
في المقابل، قد تظهر أنقرة مرونة أكبر حيال قضايا أخرى، بما فيها قرارها شراء المنظومة الدفاعية الجوية المتقدمة من طراز أس-400 الروسية. على سبيل المثال، قد يوقف أردوغان الصفقة بنحو غير مباشر من خلال الإشارة إلى أن تركيا قد تزوّد الاستخبارات الأميركية بنفاذ إلى هذه المنظومة التي تمّ شراؤها، ما قد يدفع على الأرجح بموسكو إلى وقف التسليم. وقد يتوقّع الرئيس ترامب أيضًا بشكل منطقي من أنقرة أن تطلق سراح بعض المواطنين الأميركيين وأفراد السفارة الأميركية في تركيا المحتجزين منذ الانقلاب الفاشل عام 2016.
غير أنّه في أغلب الظن، سيتعيّن على البيت الأبيض القيام بالمزيد إن أراد المواءمة بين تركيا والأوروبيين مع ضمان قابلية تحقيق المنطقة الآمنة الناتجة. وبنحو خاص، قد يضطر إلى إبقاء أكثر من 200 جندي أميركي في شمال شرق سوريا وإلى تمديد تواجدهم إلى أجل غير مسمى بهدف التعامل مع أي تمرد ناشئ لتنظيم «الدولة الإسلامية».
في حال فشلت جهود
إقامة منطقة آمنة
في حال باءت مناقشات المنطقة الآمنة بالفشل وقرّر الرئيس ترامب المضي في خطة الانسحاب، سيتعين على تركيا إيجاد وسائل أخرى للتعامل مع وجود «وحدات حماية الشعب» على حدودها. وربما تكون المعارضة الأجنبية الواسعة النطاق لتدخل تركي أحادي في شمال شرق سوريا قد أعاقت تنفيذ هذه المقاربة، لكن بإمكان أنقرة مع ذلك استعمال الوكلاء المتمردين العرب للقضاء على «وحدات حماية الشعب» في المناطق الهشة على غرار تل أبيض، المنطقة الحدودية ذات الأغلبية العربية التي تفصل بين مقاطعتَي كوباني والقامشلي الخاضعتين لسيطرة «وحدات حماية الشعب».
وفي حال تجاهل أردوغان المخاطر واتخذ مع ذلك خطوة عسكرية أشمل، قد يكون لهذا الأمر تداعيات مزعزعة للاستقرار. ففي تركيا، قد تدفع حملة مماثلة بـ»حزب العمال الكردستاني» إلى إطلاق موجة جديدة من الهجمات الإرهابية المحلية. أما في سوريا، فقد ترغم «وحدات حماية الشعب» على التراجع عن الحدود في وقت تعزز فيه خطوط المواجهة الأمامية بمقاتلين يتمركزون حاليًا بشكل أكثر عمقًا في داخل شرق سوريا، ما يتيح لبقايا «الدولة الإسلامية» المتواجدين هناك إعادة رصّ صفوفهم. وكبديل، قد تستغل «وحدات حماية الشعب» روابطها المتعلقة بالصفقات مع نظام الأسد إبرام صفقة أشمل تمكّن قوات الحكومة من العودة إلى شمال شرق البلاد بأعداد أكبر– في تطوّر آخر قد يسهّل عودة «الدولة الإسلامية» نظرًا إلى العداوة الواسعة التي يكنّها السنّة العرب للحكومة المركزية.
في النهاية، سيتعيّن على الرئيس ترامب المواءمة بين وعدين غير متجانسين قطعهما خلال حملته الرئاسية– فك الارتباط بالشرق الأوسط أو دحر «الدولة الإسلامية». وبقيامه بذلك يكون قد اتخذ خيارات صعبة قد لا تتماشى مع تفضيلاته لكنها قد تصبّ في صالح حماية مصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
مايكل آيزنشتات زميل «كاهن» ومدير برنامج الدراسات العسكرية والأمنية في معهد واشنطن.
سونر كاغابتايو زميل من عائلة باير ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن.
معهد واشنطن.