روما ـ موسى الخميسي:
على قاعة « بو شهري للفنون» في الكويت، اقيم معــرض للفنان العراقي رياض نعمة تحت عنوان « اسماعيل… الجسد الغائب» وجاء عنوان المعرض كتحية وفاء للروائي العراقي الكويتي اسماعيل فهد اسماعيل الذي رحل عن عالمنا قبل بضعة أشهر.
ربما كان وراء هذه اللوحات مبرر يجعلنا نبحث في الفن عن وجوهنا وذكرياتنا، عما يعكسه المجهول المختبئ في دواخلنا، على شكل توليف لوحة تنفتح على كل شيء، على الماضي التراثي وحاضر التقنيات الحديثة، يتعاطى مبدعها مع الماضي والحاضر كذاكرة بصرية او مفردات تشكيلية تصلح لتكون في مزيج العالم الفني، بل تصلح لتكون في مركب عالم اللوحة الذي يبنيه هذا الفنان بأسلوب يميل الى الواقعية التعبيرية من خلال محاولاته بخلق صلة بين المرئي واللامرئي .
يقدم الفنان العراقي رياض نعمة من خلال اعماله الفنية الجديدة ، التي سيعرضها في كاليري» كورت يارد» في دبي بالأمارات العربية المتحدة، خليط بصري يجمع بين الذاكرة والتراث البغدادي من جهة، فهو يطلق اللوحة لتنبني من دون عقد او تزمت مغلبا مرة الحركة والصمت، ومرة اخرى اطلاق عواصف لونية بحركة فرشاة متحررة ومنفعلة لتسخين الهم التعبيري في اللوحة،، لتكون جوابا على عالم داخلي غير مرئي تحيه هذه الصيغ اللونية التي يحضر فيها البني بقوة، تتوزع كمناخات وامزجة، تتجاور على توافق، او على تنافر وتضاد، الا انها تستجمع المضمون في منطق بصري جامع.
كان على هذا الفنان ان يتقبل الطلاق غير المعلن مع قماشاته السابقة، فهو الان بدأ البحث من جديد مع ما يمكن ان يحمله هذا البحث من نجاحات وخيبات امل. يحمل في طيه بذور الحنين الى الناس والوطن والارض، تلك التي ولد فيها الفنان وانطبعت وفنونها في ذاكرته البصرية، فقد وجد في هذا المحيط التعبيري طريقا الى اللون المتقشف المكثف، اللون كقيمة ذاتية، لون يميل الى الواقعية مع انه يحمل عناصره الاصطلاحية.
الرسم عند رياض نعمة، يوجد هناك، في مكان ما، وهذا أصعب قانون يخضع له الفنان هذا اليوم، بعد العواصف التي تهدد وجود حامل اللوحة المسندية، فقد اصبحت هذه المسندية، التي تخوض في سهل الاساليب الواقعية التعبيرية، محلوم بها كما يحلم المرء بالمدن التراثية الجميلة. انها مغامرة، سامية ولا نهائية، تلك التي يقوم بها هذا الفنان، مغامرة يجب ان تنقش نفسها في قبة سماء الرسم، بين ما هو عليه وبين ما يصبو الى ان يكونه، فالفنان التقليدي يقاوم ضد نفسه، متعطشا ابديا، محكوما عليه بإعادة تشكيل العالم وتعداد احتمالاته، انه يدعو الجميع الى فسحة استجمام تشكيلي، مريحة وصاخبة، نتلمس طريقنا اليها كمتلقين في حال من الاسترخاء الشعوري كونها تحدد بوضوح انحيازها المتجدد الى الانسان كمادة تشكيلية وكقيمة روحية. فصاحب هذه الاعمال الفنية يحمل شغفا كبيرا للشكل كأسلوب وطريقة معالجة، يتطابق والامساك الخفي في ابتكار الحياة، فهو يوظف منابع لا تحتمل الغموض على اعتبار ان الجمال في الشكل لا يمكن بلوغه الا بسحر الافكار المطروحة على سطح العمل الفني. وهو بهذا يكون الرسم عنده يقينيا، قريبا للاطمئنان والذوق العام من خلال الركون الى ما تم اكتشافه من الاشكال والمعاني والرموز التي تحملها الخطوط والالوان البالغة التعبير والتي لا يحكمها اي تناغم خطي بقدر ما يتوخى الفنان من خلالها البساطة ويسعى للتخلي عن الايهام البصري والتجسيم ليستعيض عنهما بأشكال مبسطة، وكأنها مستمدة من اعمال فوتوغرافية، لتكون بالنتيجة مرئية او مقروءة، تنمي احساس المتلقي بالاقتراب مادامت تشكل فيضا بأبعاد تأملية وتساؤلية.
الفنان رياض لم يتوقف في اعماله الفنية عند تناقض الظواهر المرئية للموضوعات، بل ذهب الى ابعد من ذلك عندما جعل من العمل الفني تجسيدا للشعور والدلالة والرمز، وهو مأخوذ بالحنين الذي يستثمر من خلاله مصادر الاضطرابات التي يعيشها بلده للوقوف في وجه مجتمع بات يعاني من مشاكل معقدة. انها لوحات تفسر تمسك الفنان بالأشياء التي لم تفقد، لديه، وصلتها بالذاكرة، على الرغم من التحوير الشكلي ذي الطابع الواقعي الذي تحمله لغة تشكيلية متحررة، يبتعد بفضلها عن هذا الوضوح القصصي، لتبنيه مبدا الاشكال المنفلتة التي تعطينا الانطباع لأول وهلة بالفضاء الحقيقي والاشكال الحية، الى رموز للمظاهر الحية في عالمنا المعاصر. انها بالنتيجة تعبير عن مشاعر عاطفية قلقة، فهي عندما تولد فهي تضيف معنى جديد للحياة، نابع من نظرة مختلفة للمشخصات والالوان والمواد والاشياء المجردة والمحسوسة بحيث تسيل الوانه التي تشبه الضربات العنيفة فيها ، هوى مزاجي تعبيري يكرس الفنان من خلاله هيمنة الحدس المنفعل والمخيلة المضطربة، الى جانب هيمنة الرؤية، لتعطي هذه الاشياء مجتمعة، الموضوع صلابته وتماسكه للتحول اللوحة الى جسد حي، الى كل مكثف يمتلك في عوالم الفنان قوة كبيرة، بحيث يجيء اللون احيانا وكانه عفويا كي يدعم الشكل، بل يقوم احيانا كتعويض عن الخط بالدور الرئيسي في تحديد الشكل.
هذا الاسلوب من الاعمال الفنية الذي يرفض التحوير والتشويه، يعيد الاعتبار الى الاشياء والاشكال والوجوه كما ترى وتعرف من خلال تجارب الحياة نفسها، كصورة الاصدقاء وهم يجلسون على حائط قديم، او صورة الطفل الذاهب الى المدرسة، او صورة الدراجة الهوائية التي تذكرنا بخراب الكثير من الاشياء مع سر وقوفها الذي يشبه مسيرة الزمن الذي لايعرف التوقف. الخ وليس كما يمكن ان يبدو من عدة وجوه. فهذه الاعمال الفنية، هي مزيج من الوضوح بقدر ما هي موضوعية، تخلى الفنان من خلالها عن اهدافه الماورائية التي ظهرت في اعمالها السابقة، ليضفي الى نتاجه الجديد شيئا من الحس بالشكل واللون، متقصيا، في لونية واحدية حساسة، التوافق بين القيم الفضائية والمنظورية. انها اعمال فنية تعكس حنينا غامضا ومجهولا الى اشياء احببناها جميعا.