لماذا يكذب القادة؟

حقيقة الكذب في السياسية الدولية

الحلقة 1

يعد الخداع الحاوية الرئيسة للكذب وهو سلوك بشري يستهدف طمس الحقيقة عن بشر أخرين وهو سلوك عادة ما يكون له هدف وقد يكون ذلك الهدف احيانا نبيلا كما يرى مؤلف كتاب “لماذا يكذب القادة”.
على المستوى الفردي وبين البشر هنالك في الاقل 31 نوعا من انواع الكذب يمارسه البشر فيما بينهم ومع ذلك فان عموم ثقافات البشر تتعامل مع الكذب على اساس انه فعل ممجوج مكروه ويعكس انخفاضا في القيم او هكذا يفترض والكذب كما وصفه ايمانويل كانت اكبر انتهاك يقوم به الفرد ضد نفسه، ومع ذلك لا يتورع الناس عن ممارسته والتفنن فيه حتى صار يبدو جزءا اساسيا من تعاطي البشر مع ذواتهم ومع محيطهم ومع ان الناس تمارس الكذب باشكال مختلفة ومستويات متنوعة فانهم في المجمل لا يقرون بكذبهم بل يبررونه وبالطبع لا احد يقبل ان يوصف بانه كاذب.
لزمن طويل استمر البحث عن تفسير الحدث السياسي في إطار السؤال التالي: هل الاحداث التاريخية الكبرى ليست الا نتيجة طبيعية لتغير ونضج ظروف مجتمعية واقتصادية وسياسية؟ ام ان هناك دورا فاعلا وحقيقيا ومؤثرا للافراد في خلق تلك الاحداث؟
هل أن التحولات السياسية الكبرى هي جزء من عجلة التاريخ؟ هل التغيرات التاريخية تحدث لاسباب ومعطيات اجتماعية؟ فان كانت كذلك فما دور الفرد في هذه المتغيرات وهل للفرد وسلوكه أثر ما في تلك المتغيرات أم أنه مجرد عنصر صغير بسيط الاثر لا يستحق الدراسة الا بقدر؟
كما يحاول الكتاب رصد ظاهرة الكذب وتحليلها في اطار العلاقات الدولية باسلوب رشيق ورصين فالكتاب في حالته هذه موجه الى عموم الناس وقابل للهضم والفهم والاستيعاب بعيدا عن التعقيدات الاكاديمية برغم ان مؤلفه البروفيسور ميرشيمر اكاديمي متميز وهذا الكتاب محاولة جريئة ومستحقة تحسب للمؤلف الذي اعتاد طرق المواضيع غير التقليدية.
بطبيعة الحال كان التركيز على الولايات المتحدة من دون اغفال العديد من التجارب الاخرى ومن الواضح ان المؤلف قد بذل جهدا كبيرا في رصد ظاهرة الكذب عبر التاريخ في العديد من الدول الغربية ولم ينس في ذلك كذب اسرائيل على العالم لتبرير احتلالها واغتصابها لفلسطين خصوصا انه كان قد وضع للمكتبة الدولية كتابه المهم والمؤتمر “اللوبي الاسرائيلي وسياسة الولايات المتحدة الاميركية الخارجية” الذي خلق جدلا واسعا ومازال داخل اميركا وخارجها. ويبدو ان توافر المعلومات والدراسات والوثائق في المحيط الغربي كان مبررا منطقيا للتركيز على ظاهرة الكذب الدولي في الغرب.
ومع ان البروفيسور ميرشيمر كان قد انطلق من فرضية ان هناك وظيفة قد تكون مفيدة للكذب في السياسة الدولية وعالجها بعمق مبينا اين من الممكن ان تحدث الاختلالات والانتكاسات للكاذبين من السياسيين فانه أكد في المقابل ان حالات الكذب التي تعامل معها هي تلك التي يطلق عليها الكذب الاستراتيجي الذي يتوخى في مساعيه تحقيق مصلحة عامة وطنية.
بالطبع نقف هنا أمام اشكالية تحديد ماهية المطامح الشخصية والانانية وهل ممكن ان يكون البقاء في السلطة وتحطيم الخصوم داخليين كانوا او خارجيين جزءا من اهداف ومساع شخصية السؤال الذي يظل مفتوحا وتحدده طريقة تعريفنا للكذبة الاستراتيجية وهي مسألة متصلة وخاضعة لمزيد من المراجعة فالمؤلف اوضح أنه على عتبات مجال جديد سيحتاج الى مزيد من البحث والتمحيص.

تأليف: جون جي. ميرشيمر

ترجمة.. أ.د. غانم النجار

إثارة الذعر

يستعمل اسلوب<< إثارة الذعر >> عندما يرى قادة الدولة خطراً محدقاً بهم , ولا يتمكنون من اقناع الشعب برؤية الذئب الماثل أمام أبوابهم , من دون اللجوء الى حملات الخديعة . كان وزير الخارجية دين اتشيسون يعاني قلقاً شديداً لاحساسه بأن الشعب الاميركي لا يعير الخطر الآتي من الاتحاد السوفييتي (في أواخر الأربعينيات ) اهتماماً كافياً , ولذا كان يرى انه من الضروري ان يحرص القادة الأميركيين على ان يكونوا << اوضح من الحقيقة >> والا فأنهم لن ينجحوا في الحصول على دعم الشعب لتنفيذ الإجراءات التي كان يراها ضرورية للتعامل مع هذا التهديد . ولم يكن الهدف من ذلك هو خداع رجل الشارع البسيط فقط . بل رجال الطبقة المتعلمة المستنيرة , بمن فيهم الخبراء في الشؤون الخارجية الذين ربما يميلون الى تقليل اهمية التهديد بأساليب خطيرة , ومن الممكن أيضاً توجيه حملات إثارة الذعر الى موظفي الدولة الذين ربما يميلون أيضاً الى تلطيف الامر وتهوين الخطر , على عكس ما يرى قادة الدولة . وعلى الرغم من كون هذا السلوك منبوذًا, فأن القادة يلجؤون اليه لظنهم انه يخدم المصلحة العامة , وليس لمكاسب شخصية . ويتضح لنا جوهر استراتيجية إثارة الذعر في تصريح شهير لكمال اتاتورك <<من اجل الشعب . رغماً عن الشعب >>.
ان القادة الذين يستعملون أسلوب إثارة الذعر قد يستهدفون إثارة حالة خوف غير موجودة في مخيلة الشعب او – في اغلب الاحوال . نجدهم يبالغون في تضخيم اثر تهديد موجود فعلا , ولكنه يخرج عن الدوائر الحكومية . ويتلخص الهدف النهائي من وراء ذلك في الحصول على دعم شعبي لزيادة الانفاق العسكري . او زيادة التوظيف في الجيش . او دعم التجنيد الاجباري . كما يمكن ان يستعمل تضخيم التهديد للحصول على دعم لشن حرب على عدو متربص. وعلى الرغم من ان إثارة الذعر تظهر عادة في زمن السلم , فأنها يمكن ان تستعمل في اثناء سير الحرب , اذا شعر القادة الرؤساء بأن الشعب قد تراخى في دعمه المعنوي , او اذا تنصل الجيش من التزامه القتالي . وقد أدت استراتيجية إثارة الذعر دورًا مهماً في السياسة الخارجية الاميركية في السبعين سنه الماضية :فقد لجأت ثلاث حكومات اميركية الى استعمال تلك الاستراتيجية لجر الشعب الاميركي المتردد الى الحرب . وكما اشرنا سابقاً , فقد كذب الرئيس روزفلت في حادثة السفينة الحربية الاميركية , في أواخر صيف العام 1941 , لاستثارة الرأي العام الاميركي ضد الألمان , على امل ان تدخل الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية . كانت السفينة الحربية تعمل في منطقة شمال الأطلسي , وحدث ان التحقت بها طائرة حربية بريطانية لتتابع وترصد غواصة ألمانية . فكان ان القت الطائرة قذائف عميقة , ولكنها اضطرت الى الرجوع الى قواعدها لنضوب الوقود . بيد ان السفينة <<غرير>> استمرت في تتبع الغواصة التي لم تتعطل من ضربات الطائرة البريطانية , فكان ان ردت الغواصة بدورها بأطلاق توربيدو على المدمرة الاميركية التي ردت بدورها على الغواصة بقذائف عميقة . ولم تصب أي منهما الأخرى , ثم عادتا الى الاشتباك بعد ساعات قلائل , وأيضاً من دون خسائر للطرفين .
وبعد اسبوع من تلك الحادثة خاطب الرئيس روزفلت الشعب الاميركي من خلال الراديو , فأطلق ثلاث كذبات , فذكر بوضوح ان الهجوم على المدمرة الاميركية حدث من دون استفزاز من جانبها , ولم يتطرق الى الطائرة البريطانية التي اطلقت النار أولا , فضلا عن تتبع المدمرة الاميركية قبل رد الغواصة على المدمرة , وذكر أيضاً ان الغواصة الألمانية هي التي اطلقت النار أولا ومن دون سابق إنذار , مع سبق الإصرار على اغراق المدمرة << في المياه الاميركية الدفاعية >> وانتهى القول بأن هذا الفعل هو << قرصنة , أخلاقياً وقانونياً >>.
كما اصر روزفلت على ان هوية المدمرة كانت واضحة بالنسبة الى الغواصة الألمانية . بيد ان الحقيقة كانت خلاف ذلك , حيث ابلغ مسؤولو البحرية الاميركية روزفلت- قبل يومين من الحادث – بأنه لا << لا يوجد أي دليل على علم الغواصة بجنسية المدمرة التي كانوا يطلقون النار عليها>>.
وأخيراً صرح روزفلت بأنه << لا ننوي البدء بأي حرب مع هتلر ولا نسعى اليها الآن >>. ولكن الحقيقة انه قد قابل تشرشل في الشهر السابق على وقوع هذا الحادث (أغسطس) , ونقلا عن رئيس الوزراء البريطاني , فقد << اخبره بأن سوف يشن الحرب على ألمانيا من دون ان يعلنها , وبأنه سوف يزيد تدريجياً من الأعمال الاستفزازية … وسيعمل كل ما في وسعه لكي يصنع حدثا. كان الرئيس واضحاً بأنه يبحث عن ذريعة تعطيه المبرر لبدء الاعمال العدائية >> .
وهكذا , جاءت حادثة المدمرة <<غرير>> لتعطيه المسوغ الكافي لتحقيق هدفه , ولكنها لم تحقق له رغبته في الدخول في الحرب العالمية الثانية . كان هجوم اليابان على <بيرل هاربر>> في 7 ديسمبر من العام 1941 , مشفوعاً بإعلان هتلر الحرب على اميركا , بعد اربع سنوات من الهجوم الياباني , هو الذي حقق دخول اميركا الحرب . جاء تصرف الرئيس ليندون جونسون ومستشاريه في السياسة الخارجية في اثناء حادثة خليج تونكين في أوائل أغسطس 1964 , مشابهاً تماماً لسلوك الرئيس روزفلت خلال حادثة المدمرة غرير . كانت تداعيات الأحداث في فيتنام الجنوبية تسير من سيء الى اسوأ بالنسبة الى الولايات المتحدة .
وقد حاول جونسون ان ينقذ الوضع بتصعيده الحرب ضد فيتنام الشمالية , لكنه ادرك – في المقابل – ان الرأي العام الاميركي غير متحمس لخوض حرب كبيرة في جنوب شرق أسيا , وادرك في نهاية الامر انه في حاجة الى تفويض من الكونغرس ليمنحه الصلاحية لخوض حرب شاملة على فيتنام الشمالية . وبالفعل جاءت الفرصة المواتية للحصول على دعم الكونغرس لخطوات جونسن التصعيدية في 4 أغسطس 1964, عندما وصلت معلومات الى واشنطن , بأن سفن مراقبة تابعة لفيتنام الشمالية قد هاجمت المدمرة الاميركية مادوكس في خليج تونكين ولم يضع الرئيس وقته , حيث استطاع في 7 أغسطس تمرير قرار خليج تونكين من خلال الكونغرس . وقد منح ذلك القرار الرئيس جونسون تفويضاً مطلقاً لشن الحرب على فيتنام الشمالية . وفي حقيقة الأمر فأن حكومة الرئيس جونسون اختلقت كذبتين عما حدث في مياه شواطئ فيتنام الشمالية , كانت الكذبة الأولى هي إصرار الرئيس ومساعديه وتعمدهم اعطاء انطباع بأن هجوماً فعلياً قد حدث في 4 أغسطس . ولا مجال للشك فيه , فعلى سبيل المثال , رد الرئيس جونسون على احتجاج الزعيم السوفييتي خروتشوف بأن لديه << دليلا كاملا وغير قابل للنقض>> بأن الفيتناميين الشماليين كانوا قد هاجموا <<مادوكس>> , وفي السياق ذاته , اكد روبرت ماكنمارا , وزير الدفاع , للسيناتور بورك هيكنلوبر في 4 أغسطس ان << الدليل على الهجوم دليل قاطع تماماً>> .
وقد اقر مقترح مشروع القرار الذي أرسلته الحكومة الاميركية الى الكونغرس في الخامس من أغسطس في سرية , بأن الفيتناميين الشماليين << هاجموا القطع البحرية للولايات المتحدة بنحو متعمد ومتكرر>>.
بيد ان الحقيقة هي ان وبعد ساعات من الإعلان عن الهجوم المزعوم , تساءل قائد المدمرة مادوكس في تقريره عما اذا كان هناك هجوم قد وقع بالفعل . ففي 4 أغسطس , وفقاً للمؤرخ فريدريك لوغفول , ضغط الرئيس جونسون بشدة على ماكنمارا << ليتحرى بدقة عن الحادثة >>, وقد فعل ذلك لأنه يعلم ان هناك شكوكاً فيما اذا كان ذلك الهجوم قد حدث فعلا . وفي صبيحة اليوم التالي ابلغ ماكجورج بندي , مستشار الأمن القومي , موظفيه بأن<< الدليل الذي بين يديه اليوم اضعف مما كان عليه في الامس >> . وفي اليوم التالي أيضاً (6 أغسطس) ابلغ والت روستاو , نائب بندي , المجتمعين في وزارة الخارجية << بأنه من غير المحتمل ان يكون هناك هجوماً قد حدث في الرابع من أغسطس >> وعندما علم بندي بما قاله نائبه روستاو , قال انه عليه ان <<يغلق فمه>>. وباختصار , فقد كان كذب القول بأن الولايات المتحدة لم يكن لها أي شكوك عما اذا كان هنالك هجوم قد وقع بالفعل على مادوكس في الرابع من أغسطس . اما الكذبة الثانية , فتتعلق بادعاء حكومة الرئيس جونسون بأن مادوكس كانت مجرد <<دورية استكشافية >> روتينية في خليج تونكن , وان الهجوم المزعوم عليها كان <<متعمدًا او من دون استشارة >>. في حقيقة الامر فأن مادوكس كانت موجودة في تلك المياه في مهمة تجسسيه , لجمع معلومات لمصلحة قوات فيتنام الجنوبية التي كانت تهاجم ساحل فيتنام الشمالية في تلك الأيام , وليس من المستغرب ان يدرك معظم صانعي القرار في السياسة الامريكية ان هانوي ستتعامل مع المدمرة الاميركية على انها جزء من تلك الهجمات .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة