(دراسات تاريخية)
من الكتب المهمة التي ألفتها الدكتورة أنعام مهدي علي السلمان في قمة نضجها الفكري، فقد كتبته بعد عام (2003)، تناولت فيه موضوعات جديدة تخص تبلور الذاكرة العراقية بموضوعات عن المرأة العراقية ودورها البنيوي في المجتمع العراقي مثل: صبيحة الشيخ داود ودور الكرد في المشهد السياسي العراقي، والنشاط السياسي الحزبي في آواخر العهد الملكي، وتداعيات بدايات العهد الجمهوري والصراع بين الملكيين والجمهوريين ممثلة في نشاط السياسي المخضرم رشيد عالي الكيلاني وغيرها من الموضوعات المهمة والشيقة، والتي تجمع بين الابعاد التاريخية والسوسيولوجية والفكرية، وتسهم في تشكيل الذاكرة الجمعية العراقية بأبعادها المتنوعة، فهي حفريات في الذاكرة بقراءات تاريخية جديدة تبتعد عن القوالب القديمة التي نحتت تاريخنا ببعده السياسي واهملت الجوانب الأخرى الاجتماعية والفكرية والاقتصادية التي تتجاوز أهميتها الجانب السياسي في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
تقدم “الصباح الجديد” بين يدي القارئ مختارات من فصول هذا الكتب آلا وهو “حفريات في الذاكرة العراقية…دراسات تاريخية” في حلقات عدة لما له من قيمة كبيرة وممتعة في الوقت نفسه لكونه يتناول موضوعات ذات أبعاد اجتماعية وفكرية تخص النخب العراقية التي تعد عاملا أساسيا في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
الحلقة 11
أ.د. أنعام مهدي علي السلمان
في 13 نيسان 1966 سقطت طائرة عبد السلام عارف المروحية في منطقة النشوة على مشارف مدينة البصرة وكان بمعيته بعض الوزراء وكبار مساعديه واعلن ان سبب سقوط الطائرة هبوب عاصفة ترابية اودت بحياة رئيس العراق ومن كان معه، وفي نهاية المطاف اصبح شقيقه الاكبر عبد الرحمن عارف رئيساً للجمهورية العراقية في 16 نيسان 1966 ، فكلف عبد الرحمن البزاز تشكيل الوزارة ، وخلال الاجتماعات التي عقدها الرئيس عبد الرحمن عارف مع بعض العسكريين والسياسيين بعد اقل من شهر على تسنمه منصبه ابدى هؤلاء معارضتهم لتشكيل البزاز للوزارة ويبدو ان معارضتهم جاءت كون البزاز لا يمثل الكتلة العسكرية ،وان السياسيين رءوا ان عبد الرحمن اراد ترضيته بسبب انسحابه من المنافسة على منصب رئيس الجمهورية بعد مقتل عبد السلام .كما شنت مجلة الحرية البيرونية ، لسان حال حركة القوميين العرب التي يتعاطف معها عارف عبد الرزاق ، هجوماً على وزارة البزاز التي عابت عليها كونها لم تستند الى اي كتلة سياسية . لكن بوادر التحركات للقيام بانقلاب جاء بعد ان بدأت علاقات العراق لا الخارجية ، من خلال رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز ،تتعزز مع المملكة العربية السعودية على حساب القاهرة .كذلك محاولته اقامة علاقات ودية مع كل من ايران وتركيا مهادنة للسياسة الغربية مما لا يتفق مع سياسة البلدان العربية الثورية. لذا رأت القاهرة ضرورية زيادة الدعم لعارف عبد الرزاق ومجموعته ،لا سيما ان القاهرة بعد مصرع عبد السلام عارف لم تكن تحبذ تولى البزاز منصب رئيس الجمهورية لوجود ملاحظات على سياسة الخارجية التي كثيراً ما هاجمتها القاهرة بشكل لاذع من خلال اذاعة صوت العرب متهمة اياه بالرجعية الموالية للغرب والبعيدة عن الاماني القومية، بل ان الامر وصل الى تذكيره بأته كان “لاجئاً يتقاضى الراتب من مصر واليوم يطعنها بالصميم” ولم تكن تريد عبد العزيز العقيلي وزير الدفاع لانه ليس من مؤيدي سياسة السير في طريق الوحدة مع مصر ولا يرتبط بأية حركة قومية موالية لها، كما ترى في عبد الرحمن عارف شخصية مسالمة استطاعت كتلة صغيرة في الجيش ان تسيطر عليه معتقداً انها قادرةعلى حماية حكمه وكانت هذه الكتلة مكونة من المقدم عبد الرزاق النايف الميسطر على الاستخبارات العسكرية وابراهيم عبد الرحمن الداود المسيطر على قوات الحرس الجمهوري واللذين كان لهما اتصال بالمملكة العربية السعودية وبالامريكان من خلال الملحق العسكري الامريكي .لذا اتصل به وزير الحربية المصري شمس الدين بدران وابلغه ان الجماعة يريدونه في العراق طالباً منه العودة شرط ان لا يسافر على متن طائرة مصرية ، ثم اتصل به سامي شرف مدير مكتب جمال عبد الناصر ،وأعطاه (300) باون استرليني طالباً منه اعطائها الى عبد الامير الربيعي ومقتدر الرويسي لتسهيل سفرهما الى العراق .لذا بدأ يتصل سراً هو وجماعته الاجئين في القاهرة وهم مدير الامن السابق رشيد محسن الجميلي ومدير الاستخبارات العسكرية السابق هادي خماس وأمر الكلية العسكرية السابق عرفان عبد القادر وجدي، ببعض الضباط القوميين في العراقومنهم صبحي عبد الحميد ومحمد مجيد ونهاد الفخري وفيصل شرهان العرس، بمباركة من القاهرة ، من اجل الاطاحة بوزارة البزاز.
بدأ التنسيق لعودة عارف عبد الرزاق الى العراق فتسلل هو ورفاقه سراً بجوازات سفر مصرية مزورة ، زودهم بها سامي شرف مدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر ، فسافروا الى بيروت ثم الى الكويت على شكل وجبات وفي الكويت استقبلهم موظف في السفارة المصريو وبعد مكوثهم يوم واحد نقلتهم سيارة تابعة للسفارة المصرية الى البصرة ثم وصلوا سراً الى بغداد في 4 حزيران 1966 بسيارة اجرة متنكرا وبهويات مزورة .وبدأ عارف عبد الرزاق يتنقل بين عدة اماكن لجمع المعلومات ،ويتصل بالعديد من الضباط للتخطيط للقيام بمحاولة انقلابية ثانية ،وكان واسطة الاتصال به العقيد عرفان عبد القادر وجدي الذي زوده بتفاصيل الموقف السياسي واتصاله بالعسكريين المقرر اشتراكهم ، لاسيما ان التنظيم الذي تم انشاؤه سابقاً كان لا يزال موجوداً ويتم عن طريق المقدم السوريعبد الوهاب الخطيب الذي كان صلة الاتصال بين عارف عبد الرزاق والضباط الموجودين في العراق.اذ هيأ لهم بيوتاً سرية سكنوا فيها وكان احدهما في منطقة قريبة من ابي غريب ، وكان يقوم بتوقير المواد الغذائية ، والاتصلات الخارجية .وكان التركيز في الانقلاب على ضرورة مشاركة الرئد عبد الامير الربيعي والنقيب مبدر الويس ،لان تأثيرها على ضباط الدروع كان واضحاً . كان لمصر هذه المرة دور كبير في المحاولة الانقلابية فقد نقل عارف عبد الرزاق ومجموعته الى السفارة المصرية في الكويت ، ومن هناك تسللوا بسيارات السفارة الى الاماكن المخصصة لنقلهم الى العراق . كما اعطيت لهم بعض المبالغ النقدية. اعطيت لهم بعض المبالغ النقدية ،لكن الحكومة المصرية ،رغم المساعدات التي قدمتها ،رفضت تزويدهم بالعتاد الى حين معرفة نتائج محاولة التحرك ،ومهما يكن من امر فبعد وصول عارف عبد الرزاق وجماعته الى العراق يوم 4 حزيران بدأوا الاتصال بعدد من الضباط .ولم تكتشف الحكومة العراقية تحركاتهم الا بعد ان ابلغتها السفارة البريطانية التي سرب لها الخبر عن طريق احد الضباط المرتبطين بها فابلغوها الى شكري صالح زكي وزير الاقتصاد التي قام بابلاغها الى رئيس الوزراء البزاز،وقام الاخير بابلاغها الى رئيس الجمهورية بحضور وزير الدفاع اللواء الركن شاكر محمود شكري ، وهو نسيب صبحي عبد الحميد ،فاوصل بدوره هذا الخبر الى صبحي عبد الحميد .ازاء ذلك اضطر عارف عبد الحميد الرزاق تأجيل تحركه خمسة عشر يوماً بدلاً من الموعد المحدد.
كانت الخطة الموضوعة تتلخص بالسيطرة على القاعدة الجوية في الموصل لغرض اتمام الهجوم عن طريق الجو على بغداد ، والتعاون مع القواعد الجوية في كركوك والحبانية والسيطرة على الدروع في معسكر التاجي ،وعلى مرسلات الاذاعة في ابي غريب ثم التحرك على الاذاعة في الصالحية للسيطرة عليها ،على ان تشترك القوة الجوية والدروع بالتحرك ،وكان الاعتماد الاكبر على السرب السادس في الموصل والسرب الرابع في كركوك ،وسربين في بغداد ومن اجل ذلك سافر عارف عبد الرزاق الى الموصل يوم 18 حزيران للاتفاق مع قائد الفرقة الرابعة وآمر موقع الموصل يونس طه باشي الذي وعد عارف عبد الرزاق بمؤازرة الحركة لا سيما بعد ان اطمأن الى مساندة القوة الجوية لهم
بعدها عاد الى بغداد .ولتأكيد الخطة سافر عارف عبد الرزاق مرة أخرى، بهوية مزورة الى الموصل ليلة 29/30 حزيران بسيارة عديلة العقيد حسين المختار مدير الشرطة فوصل الموصل صبيحة يوم 30 حزيران حيث اختبأ في منزل اللاجئ السوري محمد رفيق خوا.
استكملت جميع الاستعدادات وحدد موعد تنفيذ المحاولة الانقلابية في الساعة الثالثة من ظهر يوم الخميس 30 حزيران 1966 لا سباب منها ان ساعات بعد الظهر انسب الاوقات للحركة لنزول اغلب الضباط والجنود الى منازلهم .كما صادف اليوم نفسه استلام الرواتب وليلة عطلة واقتران العطلة بعيد المولد النبوي الشريف،كما أوضح البيان الاول،وفي الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر يوم 30 حزيران توقفت سيارة اجرة مدنية امام القاعدة الجوية في الموصل حيث دخل عارف عبد الرزاق والرائد الطيار ممتاز السعدون الى القاعدة مسلحين بالرشاشات والمسدسات حيث يوجد مطار لاالموصل العسكري وهما يرتديان ملابسهما العسكرية وكان بانتظارهما الملازم ةالاول الطيار صباح عبد القادر،ثم استقلوا سيارة وتوجهوا الى اوكار الطائرات وأمروا ضباط الصف بتهيئة طائرتين نوع هوكر هنتر قاد الاولى ممتاز السعدون ،والثانية صباح عبد القادر قوصلنا بغداد في الساعة الثالثة وهو الموعد المتفق عليه للانقلاب وقامت طائرة ممتاز السعدون بقصف عدة مواقع منها دار الاذاعة في الصالحية وقطعات الحرس الجمهوري .في الوقت نفسه تحركت القوات البرية في بغداد فسيطرة على معسكر التاجي حيث توجد وحدات الدروع كذلك مرسلات الاذاعة في ابي غريب ثم اذاع الانقلابيون بيان رقم (1) الذي اعده هادي خماس ، بعد ان قطع ىالبث الاذاعي الرسمي، وبعد دقائق اذيع البيان رقم(2)الذي تقرر فيه حظر التجوال وغلق المطارات في كافة انحاء العراق حتى اشعار اخر وكانت البيانات بتوقيع المجلس الوطني لقيادة الثورة وكانت تذاع بصوت هادي خماس .ثم وجه الانقلابيون نداء الى الرئيس عبد الرحمن عارف طلبوا فيه ان يأمر قوات الحرس الجمهوري بالانصياع لاوامر المجلس الوطني لقيادة الثورة،كما طلبوا منه ان يذهب الى داره “ويخلد الى السكينة” ثم تتالت البيانات الواحدة تلو الاخرى محددة سياسة البلاد القطرية والعربية ثم طالبت البينات بعدم مقاومة الثورة مطالبة المواطنين الانضمام اليها