حفريات في الذاكرة العراقية

(دراسات تاريخية)
من الكتب المهمة التي ألفتها الدكتورة أنعام مهدي علي السلمان في قمة نضجها الفكري، فقد كتبته بعد عام (2003)، تناولت فيه موضوعات جديدة تخص تبلور الذاكرة العراقية بموضوعات عن المرأة العراقية ودورها البنيوي في المجتمع العراقي مثل: صبيحة الشيخ داود ودور الكرد في المشهد السياسي العراقي، والنشاط السياسي الحزبي في آواخر العهد الملكي، وتداعيات بدايات العهد الجمهوري والصراع بين الملكيين والجمهوريين ممثلة في نشاط السياسي المخضرم رشيد عالي الكيلاني وغيرها من الموضوعات المهمة والشيقة، والتي تجمع بين الابعاد التاريخية والسوسيولوجية والفكرية، وتسهم في تشكيل الذاكرة الجمعية العراقية بأبعادها المتنوعة، فهي حفريات في الذاكرة بقراءات تاريخية جديدة تبتعد عن القوالب القديمة التي نحتت تاريخنا ببعده السياسي واهملت الجوانب الأخرى الاجتماعية والفكرية والاقتصادية التي تتجاوز أهميتها الجانب السياسي في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
تقدم “الصباح الجديد” بين يدي القارئ مختارات من فصول هذا الكتب آلا وهو “حفريات في الذاكرة العراقية…دراسات تاريخية” في حلقات عدة لما له من قيمة كبيرة وممتعة في الوقت نفسه لكونه يتناول موضوعات ذات أبعاد اجتماعية وفكرية تخص النخب العراقية التي تعد عاملا أساسيا في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
الحلقة 8

أ.د. أنعام مهدي علي السلمان

ومهما يكن من امر فبعد 8 شباط 1963 عين عاف عبد الرزاق قائجاً للقوة الجوية العراقية، لكنه لم يستمر بمنصبه هذا فقد استقال بعد عشرين يوماً بسبب الصراعات والفوضى التي سادت البلاد بعد 8 شباط .فضلاً عن طموح عارق عبد الرزاق في ان يكون ضمن اعضاء مجلس قيادة الثورة وهو الامر الذي لم ينكره .وقد برز ذلك للدور الذي لعبه ىكطيار للقضاء على حكم عبد الكريم قاسم لكن الامر لم يستمر طويلاً فسرعان ما انقلب عبد السلام عارف على حلفائه البعثيين في 18 تشرين الثاني 1968 ليتسلم الحكم بمفرده . وقد اظهر التنفيذ الهادئ لهذا الانقلاب والمناورة البارعة للمعارضة ان عبد السلام عارف الذي برز في الاحداث المضطربة خلال السنوات الاربع المنصرمة يختلف الى حد ما عن عارف الذي قاد بتهور ثورة 14 تموز 1958 ، فدروس صراعه مع عبد الكريم قاسم وسجنه ومتابعته للقوى السياسية قد خففت من اندفاعه ومنحته حساً اكبر بالتوازن والواقعية والنضج .وعاى الرغم من ان عارف عبد الرزاق قد أيد موقف عبد السلام عارف الا انهاعترض على ان ينفرد بالحكم لذلك اصر ومعه بعض الضباط على اجراء انتخابات المجلس الوطني لقيادة الثورة لانه كان مؤمناً بالحكم الجماعي وان المجلس سيحد من انفراد عبد السلام عارف بالحكم .
وبهذا الصدد يعترف هادي خماس في مذكراته بانه وعارف عبد الرزاق ومحمد مجيد معاون رئيس اركان الجيش كانوا متحمسين لانبثاق المجلس بعد 18 تشرين الثاني 1963 لكنعبد السلام رفض ذلك لرغبته في الانفراد بالسلطة ، لذا اتصلوا برئيس الوزراء طاهر يحي والعقيد سعيد صليبى أمر موقع بغداد وأمر الانضباط العسكري للتعاون معهم لاقناع عبد السلام بتشكيل المجلس الوطني لقيادة الثورة حيث نجحت المحاولة وشكل المجلس الذي كان عارف عبد الرزاق احد اعضاءه ونشر تشكيله في الجريدة الرسمية في 9 ايار 1964.
بعد ان كلف الرئيس عبد السلام عارف طاهر يحيى بتشكيل الوزارة في 20 تشرين الثاني 1968 .وخلال مداولات تشكيلها طلب حردان التكريتي وزير الدفاع حينذاك اعترض بشدة مقترحاً تعيينه سفيراً في وزارة الخارجية .وانهى عبد السلام عارف الجدل الذي دار حينما اسند الى عارف عبد الرزاق منصب وزير الزراعة واحتفظ حردان التكريتي بمنصب قائد القوة الجوية علاوة على منصبه .ويبدو ان بعد المنصب عن اختصاصه اولاً ،وعدم رضاه عن هذا التعيين للسبب نفسه ثانياً، جعل عبد السلام يعيد النظر في تعيينه . لاسيما وان عبد السلام قد اسند في حكمه على الكتلة القومية وهي كتلة صبحي عبد الحميد وعاف عبد الرزاق التي دعمته من اجل بقائه في الحكم.لذا سرعان ما عينه قائداً للقوة الجوية غي 15 كانون الاول 1963 بعد تجريد حردان التكريتي من هذا المنصب فضلاً عن عضويته في المجلس الوطني لقيادة الثورة . لكن عبد السلام في الوقت الذي اعتمد فيه على هذه الكتلة ، بدأ يقوى كتله مكونة من المقربين اليه وهم سيعد صليبى وشقيقه عبد الرحمن عارف وعبد العزيز العقيلي وبشير عبد الرزاق الطالب الذي كان قائداً للحرس الجمهوري في الوقت نفسه بدأ يبعد عدد من الضباط الكفؤين عن المناصب الحساسة .
بحلول صيف عام 1965 شعر عبد السلام عارف بالقوة الكافية للشروع بسلسلة من الخطوات الذكية ضد القوميين الناصريين فوافق على الاستقالة الجماعية للوزراء الناصريين في تموز من ذلك العام ، وبهذا الصدد يشير عارف عبد الرزاق بأنه كان في فرنسا حينما حدثت الازمة الوزارية اذ قدم عبد الكريم فرحان وزير الثقافة والارشاد استقالته من وزارة طاهر يحيى وتضامن معه صبحي عبد الحميد وزير الداخلية وبقية الوزراء الناصرين ، ثم بدا عبد السلام يناور ويلمح برغبته باستقال وزارة طاهر يحيى فبدا بتقليل الدعم او الاسناد الممنوح له، ثم طلب منه ان يفسح المجال للاخرين لخدمة البلاد، وكان احد اسباب ذلك اتهامه بأنه كان يحمي مجموعة من البعثيين والاشتراكيين في المؤسسة الاقتصادية ، ثم جائت خطوته الاخيرة بالتقرب من عارف عبد الرزاق .
رشح الرئيس عارف عبد الرزاق لتشكيل الوزارة ،وكان هذا الترشيح يحقق لكل منهما اهدافها المخفية ،فقد كان عبد السلام متوجساً من عارف عبد الرزاق لخشيته من ان يقود انقلاباًضده ، لاسيما وانه معروف عنه تلاكثر جراة في مناقشة عبد السلام ، وكونه من اشد المتحمسين للوحدة العربية التي تجد هوى عند العديد من القيادات الناصرية المدنية والعسكرية ، كما انه من اكثر منتقدي الرئيس ربابتعاده عن السير في طريق انشاء مجلس وطني لقيادة الثورة ، وفي انتقاده لاسلوب حكمه الفردي ،فضلاً عن حرص عبد السلام على تفتيت الكتلة القومية في الجيش من خلال كسب عارف عبد الرزاق الى جانبه بمنحه منصباً قيادياً ،وسلخه عن مجموعته العسكرية .بينما يرجع حنا بطاطو اسباب اختيار عبد السلام لعارف عبد الرزاق لمنصب رئيس الوزراء كونه قريباً من الحركيين لكونه ابن عم باسل الكبيسي احد قادة حركة القوميين العرب في العراق . اما اهداف عارف عبد الرزاق في قبول المنصب فهو تفكيره بالانقلاب على عبد السلام عارف في اقرب فرصة تسنح له.وهو ما اكده بعد سنوات طويلة حين أعترف بأنه كان دائم التفكير بالانقلاب وانه فكر بذلك منذ اذار 1965 مستغلاً انشغال الجيش في قمع الحركة الكردية في شمال العراق . فقد ترأس تنظيماً مع عدد من ضباط الجيش هدفه تنحية رئيس الجمهورية.كما اعترف بأنه هو من أجبر عبد السلام عارف بان يعينه وزيراً للدفاع وان يبقى قائداً للقوة الجوية فضلاً عن رئاسته للوزراء . يتضح مما ورد ان شرطه هذا يتعلق بتخطيطه للانقلاب، ولهذا اراد ان يضع الجيش تحت اشرافه لتنفيذ ما يسعى اليه. وقد برر عارف عبد الرزاق تفكيره بالانقلاب بانه قد جاء على اثر طلب عبد السلام بان يكون الولاء له شخصياً وحده من فبل جميع الضباط فضلاً عن ايمانه ب” حط الوحدة” لذلك فقد اعترفى صراحة بانه قبل المنصب بهدف تنفيذ الانقلاب .
وعليه اوكل عبد السلام مهمة مفاتحة عارف عبد الرزاق الى سعيد صليبى أمر موقع بغداد امر الانضباط العسكري دون غيره لاعتبارات عديدة اولها لان عبد السلام يعتمد عليه كثيراً لشدة ولائه له ولقرابته كما انه صديق حميم لعارف عبد الرزاق في الوقت نفسه،اجابه عارف عبد الرزاق “هذا العرض ليس منك بل من عبد السلام ، انا مستعد ان اجرب .ززحتى لو كانت الناس تنتقدي شرط ان يبقى هو رئيس جمهورية دستوري لا يتدخل في اشياء اخرى .وأضاف انا مستعد ان اخطب في الاذاعة واعقد مؤتمراً صحفياً لاعلن عن قناتي بان العراق سوف لا يستقر ولا يخطو الى الامام اي خطوة ما دام عبد السلام على رأسه .
حمل سعيد صليبى مطاليب عارف عبد الرزاق الى عبد السلام ،وبعد لقائه به حمل شروط الاخير الى عارف عبد الرزاق المتضمنة تشكيل وزارة من المستقلين مشترطاً عليه ابعاد كل من عبد الكريم فرحان وصبحي عبد الحميد ، لكن عارف عبد الرزاق رفض بادئ الامر لانه احس انه مخلب رقط في لعبة كبيرة يلعبهاعبد السلام عرف.لكنه اضطر للموافقة فيما بعد لا سيما بعد موافقة عبد السلام على ان يستلم ايضاً منصب وزير الدفاع واحتفاظه بمنصب قائد القوة الجوية فضلاً عن ان الكتلة القومية في الجيش والتي كان يترأسها طلبت منه مسايرة عبد السلامعارف والموافقة على ما يطلبه منه وتنفيذ أوامره في اشراك الاشخاص الذين يرغب بهم في الوزارة ،لحمله على الثقة به ثم تدبير امر الانقلاب عليه.
وبناء على هذا العرض احذ عارف عبد الرزاق يتصل بالسياسيين لتشكيل الوزارة ، كما اجتمع بكتلة الضباط القوميين ، التي يرأسها في داره يوم 10 تموز 1965 ،فوافق الجميع على تشكيلة الوزارة مؤكدين انها ثورة على عبد السلام بدون سلاح ، في الوقت الذي كانت فيه وزارة طاهر يحيى مستمرة بمهماتها .وبعد مداولات كلف عبد السلام عارف عبد الرزاق بتشكيل الوزارة في 6 ايلول 1965 ، التي ضمت سبعة عشر وزيراً .وجاء في ديباجة أمر التكليف بان الامر جاء بسبب الثقة به وقد شكره عارف عبد الرزاق للثقة التي منحه اياه. ضمت وزارةعارف عبد الرزاق في صفوفها عناصر قومية مؤيدة لعبد السلام عارف كان قد فرضهم عليه واصر على استيزارهم ،منهم وزير الداخلية عبد اللطيف الدراجي احد المقربين لعبد السلام عارف .وكان اكثرهم قد تسلم الوزارة لاول مرة،كما ان اغلبهم من المدنيين باستثناء ثلاثة من العسكريين.حيث يعد هذا العدد من العسكريين قليلاً قياساً بعدد الوزراء العسكريين الذين كانوا في وزارة طاهريحيى البالغ عددهم تسعة. ولسنا ببعيدين عن الحقيقة اذا قلنا ان الوزارة قد ضمت عناصر قومية يمكن وصفها بأنها تقليدية أو معتدلة مؤيدة لعبد السلام عارف،استقبلت السفارة البريطانية في بغداد تعيين عارف عبد الرزاق بريبة وشك فوصفته بانه لا يمتلك الخبرة السياسية ولا الوزان المطلوب وانه لم يعمل في الخدمة المدنية طويلاً سوى مدة قصيرة جينما اصبح وزيراً للزراعة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة