حفريات في الذاكرة العراقية

الحلقة 6
(دراسات تاريخية)
من الكتب المهمة التي ألفتها الدكتورة أنعام مهدي علي السلمان في قمة نضجها الفكري، فقد كتبته بعد عام (2003)، تناولت فيه موضوعات جديدة تخص تبلور الذاكرة العراقية بموضوعات عن المرأة العراقية ودورها البنيوي في المجتمع العراقي مثل: صبيحة الشيخ داود ودور الكرد في المشهد السياسي العراقي، والنشاط السياسي الحزبي في آواخر العهد الملكي، وتداعيات بدايات العهد الجمهوري والصراع بين الملكيين والجمهوريين ممثلة في نشاط السياسي المخضرم رشيد عالي الكيلاني وغيرها من الموضوعات المهمة والشيقة، والتي تجمع بين الابعاد التاريخية والسوسيولوجية والفكرية، وتسهم في تشكيل الذاكرة الجمعية العراقية بأبعادها المتنوعة، فهي حفريات في الذاكرة بقراءات تاريخية جديدة تبتعد عن القوالب القديمة التي نحتت تاريخنا ببعده السياسي واهملت الجوانب الأخرى الاجتماعية والفكرية والاقتصادية التي تتجاوز أهميتها الجانب السياسي في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
تقدم “الصباح الجديد” بين يدي القارئ مختارات من فصول هذا الكتب آلا وهو “حفريات في الذاكرة العراقية…دراسات تاريخية” في حلقات عدة لما له من قيمة كبيرة وممتعة في الوقت نفسه لكونه يتناول موضوعات ذات أبعاد اجتماعية وفكرية تخص النخب العراقية التي تعد عاملا أساسيا في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.

أ.د. أنعام مهدي علي السلمان

من جانب اخر كانت السفارة البريطانية على تماس مباشر مع ما حدث اذ كان ذلك اثناء التخطيط او بعد اكتشاف الامر وهذا ما بينته الوثائق البريطانية التي تناولت ذلك. يذكر محمد حسنين هيكل بان السفير البريطاني حينذاك مايكل رايت قد قابل عبد الكريم قاسم في الساعة الثانية صباح يوم6 كانون الاول 1958 وهو يحمل برقية عاجلة وصلته من لندن نصها” ان المخابرات البريطانية وصلتها معلومات تؤكد ان رشيد عالي الكيلاني يدبر لانقلاب وانه يتصل ببعض ضباط في الجيش وان مالا وسلاحاً قد وضعا تحت امرته ليقوم بانقلاب يفتح الطريق لانضمام العراق في وحده او اتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة.
ونرى ان ما ذهب اليه هيكل من ان السفير البريطاني قد حذر عبد الكريم قاسم لم يكن بعيداً عن الحقيقة ، اذ يذكر تقريراً كتبه مايكل رأيت في 29 تشرين الثاني 1958 من انه وجه تحذيراً الى قاسم حول “الانقلاب الناصري” كما اعترفت الخارجية البريطانية بدور سفارتها في ابلاغ عبد الكريم بمحاولة الكيلاني وجماعته الانقلابيه لذلك اتهمت بعض الاطراف رايت بأنه قد قام ((بدور قذر)) بالتعاون مع الشيوعيين بالابلاغ عن محاولة رشيد عالي لذلك انتقل من العراق بعد فشل المحاولة لانه((شعر بان بقاءه في العراق اصبح لا يطاق)) واتهم سفير بريطانيا في العراق همفرى ترفليان ‘ الذي خلف رايت في منصبه سفير البلاده ‘ إذاعة القاهرة والحكومة المصرية انها وراء اتهام بريطانيين بانهم هم الذين انذروا قاسم بالمحاولة الانقلابية ان البريطانيين متحالفين مع الشيوعيين لدعم عبد الكريم قاسم ضد الرئيس جمال عبد الناصر برغم ما أكدته الوثائق ويبقى السؤال المطروح هل ان بريطانيا لم تنس موقف الكيلاني منها عام 1941 في وقت كانت تحتاج فيه الى كل دعم ممكن للوقوف ضد دول المحور ؟ ام ان الاحتفاظ بحكم عبد الكريم قاسم يصب فيه مصلحة الغرب من ناحية ان مصلحتهم تقتضي ضمان بقاء العراق مستقلا عن الجمهورية العربية المتحدة وخوفهم من نظام مؤيد لجمال عبد الناصر؟ الشواهد تؤكد ما اشرنا اليه لاسيما بعد انهيار الوحدة بين مصر وسوريا لم يعد حكم عبد الكريم قاسم يعني لهم شيء لذلك سعوا الى مساعدة في القضاء عليه.
ومهما يكن من امر فقد كانت الخارجية البريطانية تتابع تحركات رشيد عالي باهتمام شديد منذ مجيئه وحتى في اثناء القبض عليه من خلال المراسلات مع السفارة البريطانية في بغداد .فبعد عودته مباشرة رأى القائم بالاعمال البريطاني ان رشيد عالي بعد ان فشل في الحصول على منصب سيتهيأ لقبوله كسياسي فخري اكبر، وان لديه مؤيدين كثيرين في العراق وبشكل خاص في حزب الاستقلال والجيش ،مع ذلك فأنه سيلتقي السفير ويحصل على معلومات اكثر.
وبعد وصوله بشهر واحد رفع مايكل رايت تقريراً سرياً الى سولين لويد يعبر فيه عن مخاوفه من ان يكون الكيلاني بديلاً محتملاً لقاسم فكتب يقول “ان اي بديل منظور للزعيم قاسم في الوقت الحاضر قد يكون اسوأ منه. وقد يكون رشيد عالي الذي ينتظر دوره في اللعبة السياسية بديلاً محتملاً من المدنيين ولو ان المدون عنه انه يميل بشكل متحمس نحو الجمهورية العربية المتحدة ويدافع عن الوحدة العربية. ويعتقد البعض ان دفاعه الرئيسي هو تحقيق طموحه ولربما انحرف عن خطه الحالي فيما اذا وجد بعض الطرق التي تخدم طموحه من دون مساعدة جمال عبد الناصر.
وبعد يومين من بدء المحاكمة الاولى قابل مايكل رايت عبد الكريم قاسم ،وبعد لقائه رفع الى حكومته تقريراً افاد فيه” حينما التقيت برئيس الوزراء صباح هذا اليوم سألته عن المؤامرة وقد اكد لي بأن محاكمة المشتركين بالمؤامرة قد بدأت فعلا وان رشيد عالي قد تمت محاكمته “كما اكد رايت ” يبدو واضحاً ان رشيد عالي كان على علم بالمؤامرة التي كانت تستهدف جلبه الى السلطة” وأضاف يحتمل انه لم يشارك فعلاً في المؤامرة واحدى الشائعات التي تدور هي انه سوف يطلق سراحه شرط ان يغادر البلاد لمدة خمس سنوات.
حينما حل ترفيليان بدلاً من رايت ،كانت وجهة نظره مختلفة عن سلفه فقد رفع الى حكومته تقريراً في 27 كانون الاول 1958 اشار فيه “كانت الاسلحة التي أظهرتها الحكومة العراقية في الحقيقة مجموعة متواضعة بضمنها بلطات وسكاكين وبضعة أسلحة خفيفة متنوعة “ثم انهى تقريره قائلاً “ان المؤامرة تمثل مرحلة اخرى في الصراع بين القوميين العرب والوطنيين المستغلين من قبل الشيوعيين.
من جانب اخر كان التفكير السائد لدى الاوساط السياسية في الولايات المتحدة الأميركية من الاحداث التي شهدها العراق ،ان كل الاحتمالات واردة في ظل الصراع الذي تواجهه البلاد وتوقعت تلك الاوساط “ان من المرجح ان يقود الانقلاب رشيد عالي الكيلاني ” كما ورد في تقرير أميركي في الوقت نفسه كان العامل الاساسي من وجهة النظر الاميركية ،في نجاح اي تحرك ضد عبد الكريم قاسم هو مشاركة الجيش فيه، فضلاً عن دعم العشائر لاي تحرك ،وكانت واشنطن على بينة ان الكيلاني يعتمد في نشاطه على دعم العشائر العراقية. وهذا يقدم انطباعاً بان الحكومة الاميركية كانت على دراية بنشاط الكيلاني وتحركاته ،ومما يؤكد ذلك ، ما ذكره وزير الخارجية الاميركية جون فوستردالاس ،فيما بعد ،في احدى اجتماعات مجلس الامن القومي بتاريخ 15 كانون الثاني 1959ما نصه “كانت لدينا المعلومات كافة بصدد المؤامرة التي تحاك ضد عبد الكريم قاسم ،وكان البريطانيون على علم بها ايضاً وقد حذروا عبد الكريم قاسم منها “اما من جهتهم فلم يبلغوا الحكومة العراقية بحجة ان هذا الموضوع شأن داخلي صرف “وحرص الحكومة الاميركية على عدم التدخل في الشأن العراقي وابقاء دورها بمراقبة التطورات الداخلية في العراق”.اما السفارة البريطانية فكانت ترى ان التصرف الأميركي نابع من ان الأميركيين لم يتوصلوا بأنه سيكون في صالحهم نجاح “مؤامرة” الكيلاني. على الرغم من كل هذه الادعاءات فأن هناك بعض المعلومات التي تشير الى ان تصرفات المسؤولين الاميركان كانت تشير الى عكس ذلك، ففي الثالث من كانون الاول 1958 سمحت السفارة الاميركية لاحد موظفيها ان يلتقي باحد الضباط العراقيين ، الذي يبدو انه احد المخططين للمحاولة الانقلابية ،حيث طلب مساندة السفارة الاميركية لكن المسؤولين في السفارة اخذوا الحذر خوفاً من ان يكون مدسوساً مما يورط الحكومة الأميركية ،لكنهم في الوقت نفسه اقترحوا على حكومتهم بتقرير رفعوه بتاريخ 3 كانون الاول 1958 تقديم دعم محدود لهذه المجموعة بتقديم مساعدة سخية اذا نجح الانقلاب ” كما جرت مقابلة ثانية بين الضابط العراقي ومندوب عن السفارة الاميركية في بغداد في 5 كانون الاول 1958 ، وتبعاً لذلك وجهت وزارة الخارجية الاميركية سفارتها في بغداد، ان “تعالج الموضوع بحذر وتحفظ شديدين ، لأنها تعتقد ان مفاتحة السفارة بهذه الطريقة قد يكون استفزازياُ اذ من المحتمل ان تكون الحكومة العراقية على بينة من التحركات ، لذا فان اي خطوات اميركية لدعم هذه المجموعة قد يكشف أمرها للحكومة العراقية” .
في اليوم الذي اعلنت فيه الحكومة العراقية عن كشفها للمحاولة الانقلابية طلبت الخارجية الاميركية من سفيرها في العراق مقابلة عبد الكريم قاسم واقناعه بعدم صحة الشائعات التي تتهم الولايات المتحدة الاميركية بدعم رشيد عالي وجماعته ،وبناء على ذلك قابل السفير الأميركي قاسم في 11 كانون الاول 1958 نافياً ان تكون حكومته متورطة في الامر.
بعد ان اودع رشيد عالي الكيلاني السجن التقاه عبد الكريم قاسم ثلاث مرات كان يرسل عليه الى مقره في وزارة الدفاع ،كما قابل نجم الدين السهروردي في اب 1959 مبلغاً اياه بعدم وجود مشكلة شخصية له مع الكيلاني ، لذا سمح لعائلته بزيارته ورفع الحجر المفروض على امواله المنقولة وغير المنقولة .وفي الذكرى الثالثة لقيام ثورة 14 تموز 1958 اصدر عبد الكريم قاسم عفواً عاماً عن جميع السجناء والمعتقلين السياسيين في العراق. وكان من جملة الذين اعفى عنهم رشيد عالي الكيلاني وعبد السلام عارف لا. كما شمل العفو رجال العهد الملكي من رؤساء حكومات ووزارات .حيث اطلق سراحه بعد انفصام عرى الوحدة بين سوريا ومصر عام 1961.
بعد قيام 8 شباط 1963 بادر الكيلاني الى زيارة رئيس الجمهورية عبد السلام عارف ورئيس الوزراء احمد حسن البكر مرتين دون ان يكون له اي نشاط سياسي يذكر اذ قرر كما يبدو ان يعتزل السياسة .وفي اعتقادنا انه ادرك بعد سنوات السجن وما لاقاه من مصاعب بان نجمه قد افل سياسياً ،وان ليس هناك بين السياسيين الجدد من يقدر ما قام به في عام 1941 لا سيما ان عبد السلام عارف استمر بتوجسه منه.
ظل رشيد عالي مواطناً عادياً حتى وفاته في صيف 1965 عن عمر يناهز (70) عاماً حيث توفي في احد فنادق بيروت ،ونقل جثمانه الى بغداد حيث جرى له تشييع رسمي وشعبي ودفن في مسجد الشيخ عبد القادر الكيلاني.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة