د. سامر مؤيد عبد اللطيف
لم يبالغ من وصف الدستور بكونه وثيقة التامين على حياة الشعوب، طالما ارتقت قواعده الى قمة هرم البناء القانوني، لتنظم علاقة السلطة بشعبها، وتكون مرجعا لشرعية سائر القوانين والتشريعات في الدولة.
غير ان هذا الدستور صناعة بشرية لا يمكنها بلوغ الكمال، مهما اجتهدت السلطة التأسيسية في صياغة نصوصه، فما ينتج عن قاصر، لا يمكن الا ان يكون قاصرا، وما جاء في زمان، لا يمكنه مجاراة التغيير والتطور في الاحوال والاوضاع في كل الازمان.
ومن تفاعل سمة القصور التشريعي مع سنة التطور الكوني تنبع الحاجة للإصلاح الدستوري الذي لا يمكن حصره -مهما اتسعت حدود الادراك والتصور-بمجموعة الخطوات والاجراءات التي تتضمن تعديل النصوص الدستورية كليا او جزئيا، وتطويرها بما يلبي الحاجات والطموح ويحقق نقلة نوعية على مستوى تطبيق تلك النصوص بعد معالجة القصور فيها، بل ان الاصلاح الدستوري، يتعدى ذلك الوصف ليضحى عملية معقدة من طابع تراكمي وشمولي، تنتج من شراكة بين الحاكم والمحكوم وتفاعل وتعاضد قوى وجهود عدة جهات ومؤسسات حكومية وغير حكومية.
ونتيجة لهذا التصور، تواجه مهمة البحث في طبيعة الاصلاح الدستوري سلسلة من الاشكالات الفلسفية والقانونية التي طمست الحدود الذهنية الواضحة لتشخيص كنه هذا المفهوم، تتقدم تلك الاشكاليات، مشكلة إدراك وتوصيف الالية التي تحكم عملية الاصلاح عبر اثارة تساؤل مفاده هل ان الاصلاح الدستوري عملية تراكمية ممتدة الجذور ومتعددة الاجراءات والمراحل والابعاد ام انه مرحلة انتقالية تمر عبرها الدولة ونظامها السياسي تمهيدا للانتقال الى ضفة الحرية والديمقراطية؟
وبالتحليل الموضوعي للتجارب التاريخية والواقعية التي مر بها الاصلاح الدستوري في دول العالم المتحضر، يمكن لنا ادراك الطابع النسبي المتغير للمسار الذي يمر عبره الاصلاح والاساليب التي يركن اليها في تحقيق غاياته؛ فتارة يأخذ الاصلاح الدستوري طابعاً تراكمياً ممتد الجذور، يعبر عن إرهاصات الواقع وتطوراته وتطور الوعي السياسي والاجتماعي للشعب والنخبة الحاكمة، فيكون سمةً وطابعاً مميزاً وملاصقاً لمثل هذه الدولة؛ ليتخذ بهذا الوصف طابع العملية التراكمية والمتعددة الابعاد والمراحل، فهي عملية لاعتمادها سلسلة من الاجراءات والتفاعلات الظرفية والارادية، مثلما أنها تراكمية، لكونها تتطور عبر سنين وحقب طويلة لتنضج مع نضج الوعي ومخرجاته الفعلية على ارض الواقع، ثم إنها (اي العملية الاصلاحية) لا تسلك الى غايتها في تغيير الدستور وتطويره سبيلاً واحداً أو تتخذ بعداً احادياً متفرداً ولا حتى انها تنتهي الى غاية واحدة، بل تتعدد سبلها وأبعادها بتعدد موضوعات الدستور وما يعبر عنه من جوانب مختلفة لحركة المجتمع وتطوره.
ثم إن عملية الاصلاح الدستوري بالمحصلة الاخيرة، عملية متعددة المراحل لكونها تنشأ مع نشوء الوعي بالحاجة للتغيير والتطوير لدى العامة او النخبة، ثم تتطور مع تطور الارادة والمسعى لإدراك التغيير، لتصب في محطتها الاخيرة في قنوات الدستور وقواعده اذ تعبر عن اكتمال صورة الوعي واركانه ونضج عملية التطور التي قطعها المجتمع لبلوغ هذه النتيجة.
بالمقابل يزودنا تاريخ التجارب الدستورية في العالم بمعين يدفعنا الى الاستنتاج بأن الاصلاح الدستوري قد يتشكل في سياق أو يقع تحت طائلة متغيرات ظرفية وحاجات آنية طارئة، وغالبا ما يكون الاصلاح -دستورياً كان ام سياسياً- في هذه الاحوال تعبيرا ًعن استجابة آنية من الحاكم لضغوطات ومطالب شعبية او حتى خارجية في التغيير والتطور، فلا تتغلغل جذوره في الوعي الاجتماعي، ولا يمتد أثره للمستقبل البعيد، وفي أحيان يعبر عن إجراءات شكلية ذات طابع محدد (دستوري او سياسي او حتى اجتماعي واقتصادي) يتخذها الحاكم لإسكات الشعب او تطمين مخاوف المجتمع الدولي لضمان بقاءه في السلطة واضفاء طابعا من الشرعية على نظام حكمه.
وبكل الاحوال، سواء تجذرت عملية الاصلاح الدستوري وامتدت، او انقطعت جذورها وارتهنت بظروف آنية، فإنها لا تخرج عن كونها عملية شرعية إجرائية تستهدف تغيير وتطوير مواد الدستور بما يتناسب مع التطورات في المجتمع والعملية السياسية وإن تعددت دوافعها وظروفها.
الاصلاح الدستوري وسيلة للتغيير أم غاية له؟
بيد أن هذا الجدل لا يقطع دابر الشك في تحري كنه الاصلاح الدستوري لاسيما مع مواجهة سؤال آخر مفاده هل أن الاصلاح الدستوري وسيلة للتغيير أم غاية له؟
ثمة من يدعي بأن الاصلاح الدستوري هو ثمرة ومحصلة لمراحل ومحطات وإرهاصات عدة تتفاعل في نطاق الوعي الانساني وواقعه المتغير لتصل ذروة تطورها في رحاب الدستور باعتباره أسمى وثيقة قانونية واجتماعية في الدولة تستخدم لترجمة ما يعيشه المجتمع من تطورات؛ فيكون الاصلاح الدستوري من هذا الباب نتيجة ومحصلة لعملية التطور لضمان حق الامة في التغيير وتوثيقه في أسمى وثيقة وعهد سياسي هو الدستور. من زاوية أخرى يتم وضع الإصلاح الدستوري في سياق الوسيلة التي تصبو لتحقيق غايات أسمى وأبعد وأوسع مدى؛ إذ سيكون الدستور وما يلحق به من تغييرات منطلقاً وإطاراً من المشروعية لانطلاقة عملية تغيير أوسع وأكثر امتدادا في الزمان والمجال، أي بعبارة اخرى إن الاصلاح الدستوري سيضع اللبنة الاولى والقاعدة القانونية لعملية الاصلاح السياسي والاجتماعي وغيره من مدارات الاصلاح، أو إنه القناة القانونية التي تمر عبرها كل صنوف الاصلاح التي ترومها الامة للنهوض بواقعها المتردي او تحسين ما هو قائم مهما انطبق عليه من وصف.
ومن حصيلة ما تقدم يمكن مسايرة الرأي الثاني الذي يرى في الإصلاح الدستوري مرتكزاً ومنطلقاً للإصلاح لا غايةً له، فحركة التغيير والتطور في الواقع لا تنتهي بالوثيقة الدستورية وإنما تسترشد وتهتدي بها لأطوار أكثر تقدماً في حركة هذا الواقع، وبكل الاحوال، فلا عبرة للنصوص بمعزل عن الواقع إذا ما انقطعت سبلها اليه، وكم من الدساتير وضعت لتهمل او تنتهك حرمة نصوصها برغم أن هذه الاخيرة لا يعتريها القصور لولا أن إرادة الحاكمين قد انصرفت عنها أو أن تيارات الواقع وظروفه الصعبة قد تجاوزتها وحكمت عليها بالاحتقار والاهمال.
بيد أن الامر الأكثر محورية في بحث طبيعة الإصلاح الدستوري يقع في مجال الحكم على الاصلاح الدستوري بكونه من طبيعة قانونية او سياسية او مختلطة بين الامرين. ومثل هذا الجدل سيعيدنا الى الجدل التقليدي الذي قدمه الفقه الدستوري حول طبيعة القواعد الدستورية طالما إن الكلام يدور بشأن الدستور وان كان ذلك من نافذة إصلاحه وتقويمه.
فيكون الاصلاح الدستوري كمثل قواعد الدستور من طبيعة قانونية طالما اعتلى الدستور صرح القوانين ومنحها الشرعية، واتخذ طابعها في العمومية والاطلاق والتجريد؛ كما اتخذ على غرارها (اي القوانين) منحى الامر والتنظيم والعقاب -بصفته المعنوية على اقل تقدير- الذي تنضبط به حركة الواقع وعلاقاته فهو الاطار القانوني الذي يحكم علاقة الحاكم بالمحكوم وينظم عمل السلطات والحقوق والحريات، والاصلاح من هذا المنظار ما هو الا معالجة لهذه المنظومة القانونية العليا، وتجديد لنسق الشرعية التي تحتكم اليها فعاليات الدولة ومؤسساتها.
الاصلاح الدستوري
نهج سياسي
من جانب آخر فثمة من يرى في الاصلاح الدستوري نهجاً سياسياً طالما انه يعبر عن ارادة ورؤية وتطلع صاحب السلطة السياسية لتطوير بنية واداء المؤسسات السياسية في الدولة عبر تطوير قواعد الدستور؛ لاسيما وإن الدساتير منذ نشأتها حملت معنى ومدلولاً سياسياً حينما استعملت كوسيلة لتكريس سلطة الفرد والفئة والحزب، وعبرت قواعده عن اختيارات ورؤى سياسية لمن يملك السلطة؛ فيكتسب الإصلاح الدستوري تبعاً لذلك صفةً سياسيةً، لكونه نابع من إرادة وقرارٍ سياسي ينشد تطوير نصوص الدستور مهما كانت مسببات هذا القرار، ولكونه يستهدف تطوير المؤسسات السياسية لإدامة شرعية واستمرار السلطة السياسية بالنتيجة النهائية وهذه كلها امور من طابع سياسي.
ان الموضوعية تقودنا لتبني الرؤية التي تمزج بين الطبيعة القانونية للإصلاح الدستوري والطبيعة السياسية، فان هذا الاصلاح وإن نبع من إرادة سياسية ومر بتطوير موضوعات سياسية في بعض جوانبها ولتحقيق أهدافٍ من بينها إدامة وتجديد شرعية النظام السياسي واستمراره، فان هذه العملية تحتكم الى قواعد القانون وإجراءاته وتعبر عن ذاتها بنصوص من طبيعة قانونية، تودع في متن الدستور، لتنظم وتؤطر على وفق نسقٍ قانوني كل الفعاليات في الدولة وتمنحها صفة الشرعية وهي أمور من طبيعة قانونية.
وبكل الاحوال، لا يمكن تجاوز المحتوى الانساني والطبيعة الاجتماعية للإصلاح الدستوري بدلالة القوة الدافعة (المجتمع) والمحيط المؤثر فيه، وكذلك بدلالة الموضوعات التي يعالجها ذلك الاصلاح والتي قد تكون موضوعات ذات طابع اجتماعي لاسيما وان من بين قواعد الدستور وموضوعاته تلك النصوص المعنية بالحياة الاجتماعية للأفراد، والاكثر من هذا وذاك ينبغي ان لا ننسى أن الهدف الذي يبتغيه الاصلاح الدستوري لن يفارق محتواه ومغزاه الانساني والاجتماعي، فيكتسب الاصلاح الدستوري من حصيلة تفاعل كل تلك المعطيات طابعه الانساني والاجتماعي عندما يسعى الى ضمان التناغم بين النص الدستوري والواقع الاجتماعي المتغير ويحقق اهدافه.
د. سامر مؤيد عبد اللطيف باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية
www.fcdrs.com