التاريخ يحابي الحكّام

-1-
تتصاعد أمواجُ الغرور والاستعلاء ، عند بعض السلطويين الى الدرجة التي تُصبح فيها كلمة الحق الموجهة اليهم ، جريمة يُعاقب عليها ..!!
مع أنَّ العقوبة – عقلاً وشرعاً – لا تكون الاّ مع اجتراح الجريمة .
انّ جبار السموات والارض – جَلَّ جلالُه- لا يعاقب عباده على سيئاتهم فوراً ،بل يمهلهم مُوفراً لهم فرص التوبة والاستغفار، والحقير من السلطويين اللئام ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا يأمر بايداع مَنْ يأمره بالمعروف في زنزانات السجون ..!!
انها حقا احدى المفارقات المهمة التي تكشف عما تنطوي عليه شخصيات الطغاة من حقارة وخسة وقسوة وغلظة ونسيان تام لحساب الآخرة .
وجاء في التاريخ :
ان الفاروق حين سافر الى الشام رأى ( معاوية ) يمشي في موكب سلطاني باذخ مليء بالحرس وقال :
” أكسرويةٌ يا معاوية ” ؟
فاعتذر معاوية بانه انما يصنع ذلك لأنه في ثغر تجاه العدو ، وانه يحتاج الى مباهاة العدو بزينة الحرب والقتال …
وهذا عذر واهٍ – كما تراه –
وهنا يدافع (ابن خلدون) عن (معاوية) ويذهب الى انه لم يقصد باتخاذه مظاهر الكسروية ارتكاب الباطل والبغي والظلم ..!!
انما كان يقصد وجه الله ..!!
وهو انحياز رخيص لمن أوجب السبّ على المنابر لأمير المؤمنين الذي قال فيه رسول الله (ص) :
(علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حينما دار ) في واحدة من أبرز خطاياه التي حفل بها سجله المشحون بالخطايا والأخطاء .
-2-
جاء في التاريخ :
انّ الحجاج بن يوسف خطب يوماً فأطال ، فقام رجل
فقال :
الصلاة ،
فان الوقت لا ينتظرك ، والوقت لا يعذرك ،
فأمر بحبسه ..!!
فأتاه قومُه ، وزعموا انه مجنون ،
وسألوه أنْ يُخلي سبيله فقال :
إنْ أقرّ بالجنون خليتُه
فقيل له :
فقال :
معاذَ اللهِ
لا أزعمُ انّ الله ابتلاني وقد عافاني ،
فبلغَ ذلك الحجاج فعفا عنه لصدقه
المستطرف في كل فنّ مستظرف ج2 /7
لم يصدر من الرجل إزاء الحجاج ما يوجب العقاب …
فقد سارع الى تنبيهه حرصاً على وقت الصلاة، وحَثَّه على الشروع فيها بدلاً من الاسترسال في خطبته الطويلة ..
وكان اللازم على الحجاج أنْ يوجه له الشكر على هذا التنبيه ، لا الأمر بزجه في السجون
ولكن الحجّاج واضرابَه من السلطويين الغِلاظ، لا يحسنون الاّ فنّ التعذيب والايذاء .
انّ الجنون يسقط العقوبة عن المجنون ، لأنه فاقد للعقل والادراك فلا يواخذ بما يصنع ..
وحين طلبت عشيرةُ الرجل العفو عنه، واطلاق سراحه، علّق الحجاج الامر على اقراره واعترافه بالجنون، وهنا كشف الرجل عن صورة رائعة حيث رفض الكذب على نفسه ، وعلى الله ووطّن نفسه على تحمّل السجن من دون ان يقارف جريمة الكذب ..!!
وهذا الموقف الايماني الصلب ، كان سبب نجاته
الم تقرأ في القرآن قوله تعالى :
( ومَنْ يتق الله يجعل له مخرجا)
فقد جعل الله لهذا الرجل الذي آثر الصدق على الكذب النجاة من ظلمة السجن ووحشتِه ، وخرج مرفوع الرأس ، نقي الثياب ..
وهكذا هم الصادقون المخلصون …

-3-
ومما يؤسف كثيراً ان القصة لم تشر الى اسم الرجل أو عشيرته من قريب أو بعيد
والتاريخ من شأنه ان يُعنى بالحكام وأصحاب السلطة دون غيرهم من الناس ، في احدى المفارقات الواضحة على منهجه العام ، الذي يغفل عن حقيقته الكثيرون .
-4-
انّ بعض ما روي عن الحجاج من مواقف ايجابية تساورنا فيها الشكوك العميقة ، ومن المحتمل ان تكون قد دُسّت لتلميع صورته الشوهاء فهو كما وصف نفسه :
(حقود حسود)
ومن الصعب ان يتحول السواد الى بياض في سيرة هذا العتّل الزنيم .
حسين الصدر

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة