قصص تحكي عذاباً إنسانياً
فهد الصكر
في محاولته التسجيلية لأرخنة مدينة بكل تفاصيلها، لما تحمله من أرث شعبي وحضاري، أستطاع الفنان الفوتوغرافي – فؤاد شاكر – أن يوثق واقعيا تراثا وفولكلورا، ونمط الحياة التقليدية لبغداد، بل ذهب بعيداً نحو قاع المدنية، لينهل منها مواضيعه، وليعيد الاكتشاف مرة أخرى لذاكرة المكان، وليدلنا إلى قراراته الخاصة عند استعماله أعمق المعاني والصور المتلاصقة، الأكثر إثارة، لمخاطبة القوة الفكرية قبل مخاطبة العواطف والأحاسيس.
تلك القرارات التي وضع لها الملاحظات المتراكمة في مخيلته منذ الطفولة، متسللاً إلى أعماقه ومكتشفا ملكاته ومجسداً أحلامه، وربما أحلام الصبية والنساء والرجال في حارات بغداد العتيقة، هؤلاء الذين يشكلون رموز المدنية وعلامتها الفارقة.
قصص تحكي عذابا إنسانياً. كان يقضي معظم أوقاته بين هذه الطبقات المسحوقة، حيث يستمد توازنه الإنساني منهم! في انتماء خالص بلا كلائش زائفة.
تلك الملاحظات تحولت بمهارة أسلوبه وقدرته الفوتوغرافية إلى مجموعة لوحات رائعة، برغم عتمة الألوان وغرائبية التشكيل، تحولت إلى قصص تحكي حزنا يطارده، صورته عين قلقه، تصارع النفس مع هذه الكائنات التي وجدت ضالتها في قلق الفنان، والتي ضمها كتابه (مدارات الضوء)، اذ تحدثت فصوله الأربعة (الضوء البلوري، ضوء الزمان وضوء المكان، مديات العدسة، إطلالات على الواقع) عن ذلك – صور جسدت وأظهرت لنا القصص والحكايات البغدادية في حاراتها الآيلة للسقوط، في إنسانه الذي يلاحقه التوجس من الخوف المقبل من كوة الظلام، وهو بين المعمار التشكيلي لفن الشناشيل، والحياة اليومية الرتيبة لانشغالات الناس.
تتمحور ملاحقته للنماذج المقهورة من البشر الغارقين في فوضى الأشياء «شحاذين، مجانين، باعة خردة، أطفال بلا مأوى»، حيث كانت حواري بغداد القديمة مرتعا خصبا لتواجدهم، في اسطورة لا يحدها مكان، ولا يعنيها الزمان.
فؤاد شاكر تجاوز الواقع في تصوير العوالم الإنسانية، وأعلن في لحظة جنونية، عشقه وانتمائه لهم، ومفاجئا لإطلالات الضوء على الأشياء، والوجوه التي تحولت بفعل حزنها إلى لوحات تجريدية، ومؤكداً في سردياته للمحيط البيئي ليبدو بعين الناظر كجنان معلقة، وليعيد للذاكرة الجمعية مشاهد طوى عليها الزمن؟!.
إن شيئاً كبيراً يتحرك في داخله تقتنصه عدسته. أهي العبقرية؟ أم موهبة لا حدود لها؟ أم هي شيء غريب لا يفهمه الآخرون الذين يحيطون به، ذلك الذي يراه ولا يراه الآخرون، إلا ما تنطق به العدسة؟! لكنه يسجل انطباعاته بروح شاعرية، وبروح غلب عليها الانتماء.
إنها محطات مرتحلة في ذاته، استوطنت قلبه في سنوات عمره الأولى، وصاحبته في تفاصيل الأيام والمحن، اذ كونت هذه التشكيلات الضوئية كتلا غاية في الجمال والتكوين ضمن فضاءات اللوحة (الصورة) متجاوزا الواقع في تصويره لهذه العوالم، أو (القدرة على خلق صور تتعدى الواقع وتتغنى به) كما يقول – باشلار – وكما قال عنه الفنان الرائد – فائق حسين – (فؤاد رسام يذكرنا بالفنانين التشكيليين الذين كرسوا فنهم للطبيعة وليس فوتوغرافيا بالمعنى المجرد، بل هو فنان خلاق بحق).
إذن تلك اللوحة البغدادية المؤثرة، جسد أبعادها في معرض أقامه على قاعة منتدى بغداد الثقافي عام2009 تحت عنوان: «ذاكرة المدنية والرماد» الذي دون فيه أبعاد المكان ورفاقه المغمورين «سكنة الدروب العتيقة» وأشياء أخرى. باحثاً عن مسارات أكثر أتساعاً لمحدودية اللوحة (الصورة) وحركاتها او انفعالاتها، ومنحها مقدارا من الحقيقة التي تثبت صلاحية غنائية وصدق وعفوية كائناته، التي تتحرك في تقاطيع وجوهها حالة من الصراع النفسي، تعكس ما يعبر عن أحلامها وعن التوق للخروج من قفص الالم الكبير. ومؤكداً في أعمال تعني (الطبيعة) التي وصفها (الجمال الغامض والمخيف) مفترضاً خلو الروح وانفعالاتها وغضب الطبيعة. شناشيل وحارات بغداد وأمكنتها.
لقد وثق المشهد البغدادي، الشناشيل والحارات والأزقة والشوارع والجوامع، بشكل جمالي مؤثر قبل ان تنطوي ملامحها، ولنحتفظ بلونها وشكلها ورائحتها، ولنخلق منها أسطورة شاخصة بوجه النسيان، يقول فؤاد شاكر: (ما تنطوي عليه صوري هي دمج ما بين القديم والحديث وما طرأ على مدنية بغداد من متغيرات. دمرت جانبا من معالمها المعمارية المتفردة، وذلك يحزنني كثيرا، لأنني ببساطة قد ولدت في هذه المدينة التي رسبت في نفسي أشياءً كثيرةً، وعلمتني أن أفهم معنى الحياة، ولعلي مثل أي مبدع آخر عاش مراحل حياته في هذه المدينة وقاعها المنسي، وأذكر من بينهم الروائي الراحل – غائب طعمة فرمان – الذي كتب رواية النخلة والجيران، وجعل من ناس تلك المدينة أبطالا لروايته، هذه الثيمة التي اشتغلت عليها، وإني لأعد مثلما أعد غيري من الفوتوغرافيين الرواد الأوائل، ان المحلية تقود إلى العالمية، والتألق الإبداعي، حين تكشف عن عوالم جديرة بالاهتمام والتأمل والقراءة المتأنية).
لقد سجل الفنان – فؤاد شاكر – كل ذلك جاعلا من السكون بعده الأساسي، وهو في علاقته مع الواقع الزمكاني، أفصح عن وشائج حوارية غائرة في النفوس، ضاربا قيد العزلة عن كائناته المتعبة، وبراءة الأطفال المقهورين، براءة غادرتها أبسط حقوق الطفولة!
لذا يحق لنا أن نقول إن الفنان – فؤاد شاكر-كان صديقا ومنتجا لكائناته التي أهملها الزمن والإنسان، وهو الذي عنى بالإرث المعماري والأوجه المتعددة للواقع المعاش، ولم يغفل لمحة من واقع المدينة إلا أحاطها بلحظة وهو يقتنصها تدوينا قبل انهيار مكتشفاته، وممتلكاته التي ينتمي، ليأتي همس – فؤاد شاكر – ثانية: «عند تلك الأحياء الفقيرة العزوفة، والدروب المتربة، الضيقة، لا يسع المرء إلا أن ينظر إليها بخشوع، ومن ثم يسبح بأخر خيط من خيوط شعاع الشمس الغاربة عليها. فهذه الأطلال كما يمكن أن نعهدها، ونتطلع إليها باستحضار مكثف للذات، وقد حفرت بالذاكرة والنفس أشياء كثيرة، وهي التي غالبا تؤجج فينا الحنين والشوق لماضيها البعيد، وللذين توارثوا الحب والارتباط العضوي بأمكنة النشأة والمهد الأول».