ابتسام يوسف الطاهر
تمددتُ على الورق الابيض حروفا سوداء، واكتشفت اني لي اسما (سعيدة) .. اذن يجب ان اكون سعيدة!
كما هو الحال معكم، لم اختر اسمي، بل هي التي اختارته… من هي؟ انها الكاتبة طبعا.
من منكم اختار اسمه؟ لا أحد حتى الذي يغير الاسم الذي مُنح له بعد حلوله ضيفا على الحياة، ويختار اسما على مزاجه، يبقى غريبا على مسامعه، وحتى لو يتعود عليه وتصبح له معه ذكريات، يبقى محط انظار الساخرين.
اما لماذا اختارت لي اسم (سعيدة) هذا مالم استوعبه، هل ارادت ان تسطر لي كل الخيبات لتثبت انه اسم على غير مسمى؟ ام لتقول ان اغلب الاسماء تناقض اصحابها، كما في حالتها! فارادت أن تجعل مني قناع تموه به عليكم، ولتحكي عن خيباتها بحرية، تجنبا لشماتة العذال وفضول الاصدقاء. لكنها لا تعترف بذلك. تقول ان الأمر خارج عن ارادتها ولم تخطط له، متوقف على الايحاء، لم تقل الوحي، ربما خوفا من تهمة الـ(تنبي) فالوحي يخص الانبياء فقط؟
تؤكد ان الافكار والاحداث تداهمها احيانا بلا مقدمات، وهي لا تتحكم حتى باختيار الاسماء، لذلك بقي الكثير من ابطال قصصها بلا اسماء. وأنها في تلك الليلة جافاها النوم، بالرغم من الارهاق والتعب، وبالرغم من الصمت الذي يحيط بالمكان، فلا جيران يسكرون ليلا ويقضون مضجعها بصراخهم وصخبهم بعد منتصف الليل، او جريهم على الارض الخشبية مما يجعلني اشعر وكأن السقف سينهد فوق رأسي.
وليس لديها قوائم أو ديون حان وقت سدادها. مع ذلك خاصمها ملاك النوم ليلتها. اغمضت عينيها، لعله يأتي مع الظلام، لكنها واصلت التقلب شمالا ويمينا، حتى بانت خيوط الفجر واهية. فاضطرت على ازاحة الغطاء وفتح الضوء لتسطرني على الورق، أو لتمطرني غيمة داكنة. لماذا لم تسميني غيمة مثلا!
تقسم على ان هذا مايحصل لها دائما، تستولي عليها فكرة ما، تقلب الليل عشرون أو ثلاثون مرة وليس (اثناعشر تجليبة)، ولايوافيها النوم الا بعد ان تسطر مافي بالها أو بعضا منه.
اذن هي تقلب ليلها بسبب الأفكار، وأنا اقلبه بسبب الخيبات.
لماذا لم تجعل مني كاتبة، مثلا؟ هل خوفا من المنافسة! تدعي انها لا تريد لي أن اعاني مثلها وأمر بخيباتها! مع ذلك اختارت لي كل مايعزز الشعور بالخيبة والاحباط، ماعدا الاسم.
تدعي انها لم تختر ذلك بل هو القدر! هل القدر اوحى لها ان تجعلني في بيت لا يليق الا بطالب يسكنه بشكل مؤقت؟ لا يسع حتى لإثنين، لأسكنه العمر كله. ولم تجعل لي اهل ولا اصدقاء آوي اليهم بين الحين والاخر.
ولم تكتف بذلك بل جعلته في اقصى المدينة وفي نهاية الشارع، بعيدا عن الاسواق وعن وسائل المواصلات. احيانا أعلن غضبي على تلك الاختيارات، واخرى اصبر نفسي بتبريرا أو عزاءا بأن هناك من مثلي في تلك الحال.
اتسائل احيانا ما الحكمة في تلك القسمة؟ أن تختار لي من كل شيء اسوأه. في المدرسة لاحقتني بشتى صنوف العراقيل لكي لا انجح بالاختبار، يتوفى والدي في اليوم الاول من الامتحان النهائي، فاضطر للتأجيل، ثم تختار لي اصعب الاسئلة، ولكنها لا تجعلني افشل تماما لأعيد الامتحان مرة اخرى! بل انجح واجتاز كل الاختبارات ولكن بدرجات تتربع على الهاوية، لم تنفع في ترشيحي لإكمال الدراسة ولم تفلح بتوفير فرصة لا بأس بها للعمل.
وحين رضيت بالعمل المضني في دائرة البريد، وتأقلمت مع الحال، لاحقتني لتغلق تلك الدائرة بسبب تقلص الميزانية، وسطو الانترنت على الرسائل. فأُحال للبيت مع البعض القليل من الزملاء، الذين استطاعوا الحظو بفرصة اخرى، الا انا!
مرة اعتقدتُ انها حاولت ان تخفف من تحاملها علي، أو تحايلت على القدر لينصفني.
في ذلك اليوم جعلتني مريضة! لم تنفع محاولاتي في تناول الاعشاب في التخفيف من الحمى، فاضطررت للذهاب للطبيب. نظر لعيني بدون جهاز، اول مرة ينظر شخص بعيني مباشرة.
لمس يدي، فتداعى لها كل جسدي بالفرح والابتهاج. ارتعشت فاعتقد هو إن ذلك بسبب المرض، لايعرف اني شفيت منذ اللحظة التي لمست يده الناعمة يدي التي نسيتُ خشونتها. سمعت منه كلاما، فقلت لايمكن للقدر أن يبقى مجافيا كل العمر، ولابد ان يفتح ولو رازونة لشئ من الفرح.
ماذا قال؟ … لا اذكر، لكني اذكر انه كان كلاما عذبا، اشبه بنسمات دافئة في ليلة باردة.
تقول انه لم يقل لي حتى سبب المرض بل اكتفى بوصف الدواء وضرورة الالتزام بمواعيد اخذه.
هل هي الغيرة؟ لا اعتقد، لكنها ربما لا تصدق ان من مثلي ممكن أن تحظي باعجاب طبيب!
بلى اذكر انه قال «انت جميلة وصغيرة ويجب ان تهتمي بنفسك…. لابد أن تأتين مرة اخرى لأطمأن عليك». كلام آخر خصني به. جعلني اعود للبيت تكاد قدماي لا تلامس الارض. دخلت مسرعة لأتناول الافطار بشهية لم أعرفها من قبل.
لكنها نطت على الورق الابيض لتسطر عليه حبرها الاسود، لتؤكد ونبرة الأسى واضحة على طريقتها بالكتابة «ان اغلب المرضى يشعرون بذلك التقارب نحو الطبيب، خاصة إذا كان من الجنس الآخر، وهو احساس عابر، لاعلاقة له بالحب!»
حاولت أن اتحداها، فاتصلتُ بالعيادة لأراه، فأتاني صوت السكرتيرة حادا كأنه صفعة وهي تقول لا وجود لمواعيد لأكثر من شهر، لأن الدكتور في اجازة لقضاء شهر العسل.