عبد المنعم الأعسم
ينقذف عصرنا الى خارج حدود المنع المنظم والرقابة الصارمة، أو هكذا يبدو من زاوية المقارنة مع الماضي، لكن الحقيقة غير ذلك الى حد بعيد، وبخاصة حين يتعلق الامر بمجتمعات حديثة النمو، مثل مجتمعنا، حيث يصعب عليها ان تتقبل تيارات التحرر والثورة على الرقابة والتحريم، وقد تابعنا في العقود الماضية كيف ارتدّت الى الوراء حملة ترجمة افكار المفكر الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه بهذا الصدد «المراقبة والمعاقبة» الى الواقع العربي، حين رصد الآليات الاجتماعية والنظرية التي كانت وراء الاختلاف الرهيب بين نظم العقاب في العصر الحديث، فيما خلص فوكو الى ان «الانسان المعاصر نزيل سجن شعوري وإن لم يُسجن».
تجربتنا العراقية الحديثة بعد سقوط الواحدية وفكرها الرقابي القهري تصلح ان تكون (في مجال الانتاج الثقافي والفكري) موضوعا اكاديميا عنوانه «الدولة التي تتخلى عن المراقبة الى غيرها» بدءا من تصفية وزارة الاعلام وانهاء العمل بمراقبة المطبوعات وفتح حرية التأليف والنشر على مصراعيها، وانتهاء بهبوط سلامة اللغة في النص الابداعي.. ففي تضاعيف ذلك استقبلت المكتبات والصحف واقنية النشر وفرة من الاعمال والمدونات والكتب والنصوص التي تتصف بالعمق والجدة والشجاعة والتخلص من الخوف والارتياب والمداهنة والمديح المذل، لكن، وبموازاة ذلك، تعرض ذوقنا وحياؤنا ومعارفنا الى اعتداءات استفزازية على يد شعراء وكتاب شباب او طارئين او انصاف موهوبين سلقوا اللغة سلقا، وتجاوزوا جماليات التعبير والنحو والصرف والاشتقاق والابدال الى غثاثة اقل ما يقال فيها انها لا تمت للكتابة واصولها وشروطها وابسط قواعدها بصلة، تكفي الاشارة الى دواوين شعر تطل علينا باخطاء نحوية تبدأ من الغلاف، ثم تضج مختلف الاخطاء في عناوين ومتون القصائد مما يستدعي نشر «سيطرات» ذوقية ووقائية لوقف هذه المهازل عند حدها.
الجاحظ دعا كتاب عصره الى «السلامة من فاحش اللحن، ومن مقدار جهل العوام في كتاب إنْ كَتَبه، وشِعرٍ إنْ انشده، وشيءٍ إنْ وصَفَه» ولم ينس ان يحذر غيرهم مما اسماه «عويص النحو الذي لا ينفع في المعاملات» وفي معالجة لأبي حنيفة النعمان لهذه الظاهرة يقول فيها «النحو ملح العلم، ومتى استكثر من الملح في الطعام فسد» اما ياقوت الحموي في كتابه الشهير «معجم الادباء» فانه ينقل عن عالم النحو ابن السكيت قوله «خذ من الادب ما يعلق بالقلوب وتشتهيه الآذان، وخذ من النحو ما تقيم به الكلام، ودع الغوامض» ويشاء البعض من ضعاف الموهبة والحجة ان يلوذ في اغاليطه النحوية والتعبيرية بموضوعة الاجتهاد المرخص له، وهي غير ذلك حتما، حتى في ما كان يقوله ابن حزم في كتابه «المُحلّى» من ان المجتهد المخطئ أفضل من المقلد المصيب» حيث يُعدّ خلط الاجتهاد بالتفكير بعملية الكتابة الابداعية بمثابة تهريب متعمد للقواعد، او قل تبييضا للاموال بحسب مصطلحات الاقتصاديين.
الى ذلك، وعلى الرغم من التغييرات الانفجارية في مجال حريات التعبير والكتابة، فقد استمرت القيود والمراقبات في نواحي كثيرة من النشاط الفكري العالمي ويشار هنا الى كتاب الأمريكي بول فندلي الذي صدر قبل عشرين سنة بعنوان «من يجرؤ على الكلام؟» والذي كشف فيه عن عن وجود لوبي امريكي يتولى كبح حرية التعبير والنقد بمختلف الطرق، فيما قدمت الثورة العلمية في مجال الاتصالات والرصد خدمة كبيرة للرقابة واعمال التفتيش والمنع، فيما استقرت الرقابة على منظومة من الاجهزة السرية المعقدة والمخاتلة والمجسات الحريرية التي لا تُرى بالعين المجردة.
ويبدو ان الدعوة الى نوع من الرقابة على المدونات في الغرب لها ما يبررها حين يتعلق الامر بتلك المؤلفات والمنشورات التي تحرض على الكراهية وتبييض صفحات وسمعة الاستعمار واهانة الديانات والعقائد وحقوق الشعوب في تقرير مصائرها، بل واثيرت شكاوى على كتاب قدامى كانت مؤلفاتهم قد افلتت من الرقابة حيث ارتكبت مخالفات تحت طائلة المحاسبة، فالروائي «اورويل» تحدث في كتاب «ابنة الاكليريكي» باهانة مبطنة الى «فقراء الغجر» الذين كانوا يجبرون على السخرة في حقول الرأسماليين، وقال عنهم «كانوا مخادعين، ذوي مكر غير قابل للاختراق كالذي عند المتوحشين، كانت هناك نظرة متوحشة في وجوههم البلهاء الشرقية» الامر الذي اعتبرته هيئات انسانية نزعة عنصرية محرمة، فيما استطردت القراءات الجديدة للاعمال الادبية الكبرى في بحثها عن الافكار والنصوص التي عبرت من «مقص الرقيب» او انها لم تمر بذلك المقص فعثرت على تصريح مثير لداعية السلام والحريات «برتراند راسل» يدعو فيه السلطات البريطانية، في الثلاثينات، الى إصدار «بطاقات إنجاب» مصنفة بحسب اللون، مما يعني ضبط ومراقبة ولادات السود والمتحدرين من القارة الافريقية، ما يُسجل في خانة التمييز العنصري.
دعوني اعتذر لاصدقائي الكتاب والمثقفين من اصحاب الحساسية حيال التدخل في ضبط النشر، وانا منهم، بان المطالبة بابعاد الرقيب عن جادتنا «من اجل فن انساني حر» مشروعة، كما ان المطالبة بنوع من الرقابة الواعية لحماية الفن الانساني الحر من تعديات الجهالة مشروعة الى حد ما.