فراس طه الصكر .. بريد العائلة وشعرية المحذوف..

علي حسن الفواز

قصائد الشاعر فراس طه الصكر لاتحتمل التأويل بوصفه الهرمونيطقي، بقدر ما تبدو وكأنها قصائد قريبة من الحياة، مؤنسنة، وموحية، يحاول من خلالها الشاعر الوصول الى المعنى، أو اللذة، أو الى الفكرة، وكلها تفاصيل تتمحور حول الذات والعائلة والشهداء، وعلى تقانة(الخطاب) الذي يفصح عن المحذوف من مكنونات تلك التفاصيل.
قصائد كتابه الشعري الجديد (بريد العائلة) الصادر عن دار نينوى للدراسات والنشر/ دمشق 2018 تتنوع بتنوع ذلك الخطاب، وبحساسية الشاعر إزاء ما يتبدى في صور الفقد/ الموت، وإزاء ما يتبدى في الحياة من صراعات يعيش الشاعر هواجسها، وقلقها واسئلتها.
عنوان الكتاب الشعري بدلالته السيميائية يُحيل الى فكرة الانتظار، والى ما يمكن أن تحمله مفردة(بريد) من ايحاء، مشبوكا بالدلالة التعريفية الاسمية للعائلة، ولتوصيف علائقها، وكأن محنة الشاعر تقترن بما يحمله البريد من حمولات رمزية، وعلاماتية، والتي تُتيح للشاعر أن يمارس لعبته الخطابية في استحضار المفقود عبر اللغة، وترحيله من المفقود الشخصي/ الأب الى المفقود العمومي/ العالم، الوطن، المكان، الهوية، وهي تقابلات ترتقي الى مستوى التضاد، حيث تتحول لعبة الشعر الى مجال استعادي، تعويضي، تتحفز فيه تقانة التصوير والتشكيل عبر توتير الجملة القصيرة بوصفه براديغما تمثيليا للصورة القصيرة والمكثفة، حيث تتكشف مهارته في صياغة شعرية تلك الجملة/ الصورة، مقابل مهارته في إتساع رؤيته لما توحي به، أو ما تذهب اليه..
قصيدة الكتاب الأولى (بريد العائلة) تتحوّل الى موجّهٍ له دلالته في الاحالة الى موضوعة الفقد، فكل ما يصطنعه الشاعر من اشارات، ومن وحدات تصويرية، يجد صداه في سردنة القص، وفي محاولته استعادة الأب عبر جملة (سأروي عنك) حيث يتقنّعه، بوصفه رمزا غامرا للجهات، وللعائلة التي فقدت بغيابه لعبة التراسل الوجودي، مقابل الايهام بحضور صورته اليافعة والعالقة في حقائب السعاة الذين لن يصلوا أبدا…
هذه القصيدة العتبة هي فضاء نفسي، واستعاري تتضح شفراته في اغلب قصائد الكتاب الأخرى، إذ تتحول شفرات الفقد، واليتم، والخرس، والغياب، والهزيمة، فداحة الجرح، الخيبة، الى احالات نفسية ضاغطة، يتساكن فيها العطب الوجودي مع عطب الذات وهي ترى العالم خائبا، مخذولا..
مؤخرا
لم يعد بمقدورنا الكلام،
ذلك أنّ كلماتك وحدها
أصبحت رقية الخلود،
ووجهك الباذخ
لم يعد تعاستنا الوحيدة،
فكلما أمعنا النظر في هذه الخارطة
لم نجد في تضاريسها ما يوحي بالوطن..

الغائب بوصفه حضورا ضدياً
ثنائية الغياب والحضور هي جوهر البلاغة التعبيرية والتمثيلية في قصائد الصكر، بدلالة ما تُحيل اليه أو ما تكشف عنه، حدّ أن تعالق هذه الثنائية بسيميائية العنونة يبدو وكأن الشاعر يسعى- من خلاله- الى اصطناع نوع من الحضور الضدي لغياب الاب من خلال الرسائل الافتراضية للإبن، والاهداءات الى البنت مريم، والى (ناصر ياسين الصكر)وهي احالات لمواجهة هيمنة المفقود- الأب والوطن- وعبر محاولته في أنسنة الوجود من خلال سلسلة من الاستعادات، والصور، وعبر أنسنة الخطاب، بوصفه جوهر اللغة التي يعيشها الكائن الشعري والتنطولوجي، أو الى ما تُشير به الى وجودٍ ما يمثله الأب بغيابه..
في الغياب
حينما ترحل الصور
والوجوه
والوشايات،
حيث الرمال أقرب ما نستطيعه
والمياه مجرد حكاية
هناك
لن أجد مبررا لنسيانك
سوى أنك
مجرّة من الذكريات..

لعبة الشاعر في نزع التأويل عن قصيدته يضعها أمام رهان خطير، رهان في بنائها التصويري، ورهان في اختزالها وتواصلها، ورهان أن تكون الجملة النحوية المبتورة مكتملة عبر تحوّلها الى جملة ثقافية، ورهان احتيالها النسقي لتمرير الاستعارات عبر تقانة التصوير ذاتها، دونما احالات الى ما هو فلسفي أو هرمونطيقي، بدلالة ما يستحضره الشاعر من مفردات وصور للموت والحرب والخيانة والحزن والوحدة، وهي شفرات كنائية عن الواقع الذي يعيشه، والذي يتركه دونما(بريد العائلة) أو لحظة الأب الغائب، وهي لحظة وجودية تدفع الشاعر الى تشظيتها لتكون تمثيلا استعاريا عبر صباحات الحروب، والأسماء التي تواجه(النسيان) وعبر ما تحفظه الأعضاء مبتورة، أو عبر غيابها عن التفاصيل والمعاني، حيث(لا يذهب أبناؤنا للمدارس) وحيث(يبيعون المناديل في مفترقات الضياع)
هذا التوظيف الاستعاري هو الجوهر التعويضي للغياب والمحو، ولتبرير وظيفة الكناية العالية للموت/ الفقد، حيث تتشكل في سياقها بنية ضدية للوجود، تتمثلها صور الاطفال والحرب، الشوارع والامتلاء، المناديل والمفترقات، العطالة والجوع. وحتى قصيدة(سبايكر) لا تخرج عن هذا السياق، فهي قصيدة الذات التي تواجه هاجس الفقد الوجودي، والتي تقترح عبر وجع الفقد الكوني في سبايكر تقابلا تصويريا يتشكل عبر مسرحة الحدث، من خلال حضور الايتام الى المشهد، وعبر منطقهم، وليكونوا(الكورس) الشكسبيري في ترديد نشيد التراجديا، بوصفه مقابلا للجحيم، حيث تتحول فيه الصوت الى معرفة(يعرفون) والفكرة الى رؤيا، والعبارة العائمة الى دلالة قصدية، ولحظة الموت الى تاريخ يختصر تاريخ فجائعنا الوجودية والوطنية..
أحبُّ محادثة الايتام كثيرا،
إنهم بارعون جدا في الرياضيات،
مثلا
يعرفون عدد الشهداء
في المقابر الجماعية
ويعرفون
كم مرة يهبط ملاك الموت
في ارض المعركة..

تقانة النثر وشعرية البياض.
تخلى الشاعر فراس الصكر في كتابه الشعري من التشكيل السطري لبنية النثر في قصيدته، وانحاز الى شعرية البياض، أو الى شعرية الفراغ، وهي بتقديري لعبة تقترب من المغامرة، إذ يستدعي البياض التوقعَ والتوهم، وفعل الاشارات وطاقة الاحالات، تلك التي لا تقوم على خديعة اللفظ كما يسميها الجرجاني، بل الى طاقة كثافتها التعبيرية، والى لعبة الشاعر في افتراض حدس المعنى، فالبياض هنا يستدعي حدسا لغويا، وحدسا نفسيا، وحدسا يستدعي من القارئ تحفّزا للبحث عن المعنى الغائب، أو عبر استعادته لدلالات مفترضة، لها علاقة بهواجسه وخساراته واسئلته..
الجملة القصيرة تُحيل الى رؤيا طويلة، يستعيض فيها الشاعر عن السطرية بالانزياح الى الفراغ او البياض، وطبعا تخضع هذه الاحالة الازاحية الى مرجعيات نفسية وايديولوجية وسحرية، أو الى توق واستيهام نحو الاكتمال، وهي جزء من غواية كتابة الشعر نثرا، إذ لا مناص للشعر- هنا- سوى وضع لعبة الكتابة على وفق مقترحات قصيدة النثر، حيث القصدية، وحيث التوتر الداخلي والكثافة، وهي تمثلات تستدعي وعيا بتشغيل البنى اللغوية عبر بنيات الجملة، وعبر التعاطي الشعري والاستعاري مع المحذوف، والايهامي، وهي اشتغالات حاول الشاعر الصكر أن يغامر فيها، فيغيّب البناء السطري تماما، وأحضر المحذوف بدلالاته واحالاته التي وجدت في البياض مجالها البصري والتشكيلي.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة