فريدريك ويري،
جلال هرشاوي
يجتمع الفرقاء الليبيون في المؤتمرات الدولية في القصور والمنتجعات والفنادق عبر العديد من القارات، ويتبادلون الضحكات، والصور، والأحاديث الجانبية التي قد تنم للوهلة الأولى على التوافق بينهم حول خطط العمل، والمواعيد المتفق عليها لإجراء الاستحقاقات القانونية، ولكن تنتهي هذه الصورة المثالية بمجرد العودة إلى ليبيا؛ حيث يتم استئناف الصراع بين الميليشيات في ظل انتشار حالة من البؤس الاقتصادي وانسداد الأفق السياسية.
تأتي حالة التفاؤل في اقتراب حل العقبات التي تقف حائلًا أمام الأزمة الليبية من التطورات المشجعة التي حدثت خلال المدة القليلة الماضية، واشتملت هذه التطورات على تراجع دور أهمية قبائل طرابلس والاتجاه إلى تعزيز قوة الجهات النظامية الحكومية، والاصلاحات الاقتصادية.
ماذا تمثل قمة باليرمو في مسارات الأزمة الليبية؟
يُمثل مؤتمر باليرمو الذي استضافته الحكومة الشعبوية في إيطاليا في المدة من 12 إلى 13 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي فرصة جديدة لاستعادة المسار السياسي في طرابلس.
وتأتي استضافة روما لهذا الاجتماع نتيجة لحالة التنافس السياسي مع باريس التي استضافت قمة مماثلة، وحصل الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» على التزام شفهي من الفرقاء الليبيين لإجراء الانتخابات العامة أواخر هذا العام في ديسمبر/كانون الأول.
وإلى جانب توصل قمة باليرمو إلى ضرورة إجراء الانتخابات في يونيو/حزيران 2019 بدعمٍ من الأمم المتحدة، استطاعت قمة باليرمو فتح حوار مباشر بين «فايز السراج» رئيس حكومة الوفاق الوطني المعترف بها عالميًا، والمشير «خليفة حفتر» القائد العام للقوات المسلحة الليبية في حكومة طبرق في شرق البلاد فيما يتعلق بمسائل الأمن والاقتصاد. إن أهم ما أضافته قمة باليرمو أنها وضعت خريطة الطريق لتوجيه ليبيا نحو انتخابات حرة ونزيهة. وفي كل الأحوال، إذا نجح الليبيون في إجراء هذه الانتخابات لن يكون ذلك كافيًا في إنتاج حالة الاستقرار والوحدة الدائمين.
ويبقى السؤال مفتوحًا خاصة في ظل حالة الانقسام السياسي والعسكري بين الحكومات المتنافسة.
وتعمل الأمم المتحدة على عقد مؤتمر وطني طموح في يناير/كانون الثاني 2019، ومن المقرر أن يجمع هذا المؤتمر الفصائل المعارضة، وكذلك رؤساء البلديات، وزعماء القبائل، والمجتمع المدني وبعض المواطنين العاديين لحل هذه القضايا. وتبرز تخوفات بشأن هذا المؤتمر خاصة أنه يُمكن أن يؤدي إلى مزيد من الخلافات التي قد تؤدي إلى إثارة المزيد من الخلافات التي قد تعطل إجراء الانتخابات وتوحيد المؤسسات الاقتصادية والأمنية في ليبيا.
التغيرات الإيجابية في ليبيا
انعقد مؤتمر باليرمو بعد الاشتباكات التي جرت في العاصمة طرابلس، حيث استولت زمرة من ميليشيات طرابلس على مؤسسات الدولة، ومواردها الاقتصادية من خلال استعمال ارتباطها مع حكومة الوفاق الوطني، وهو ما ضمن لهذه الميليشيات الاحتيال على مقدرات البنك المركزي الليبي، والتلاعب بأسعار الدينار الليبي مقابل العملات الصعبة، ونشاط تجارة العملة في السوق السوداء.
تجدر الإشارة إلى أنه منذ سقوط القذافي في 2011 تعمل الميليشيات على السيطرة على مقدرات العاصمة بما في ذلك المطارات والبنوك والموانئ وشبكات الوقود. وهناك العديد من الدلالات الإيجابية حول مستقبل العملية السياسية في ليبيا، سنحاول إيجازها في عدة نقاط:
1. الاتفاق الأمني بين الميليشيات: اسهم الاتفاق الأمني الذي توصلت له العناصر المسلحة في منطقة طرابلس في أواخر سبتمبر/أيلول برعاية الأمم المتحدة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية جديدة بإشراف من «مركز عمليات مشترك» بهدف حماية المواطنين والممتلكات وتمهيد الطريق لاستبدال المليشيات بالشرطة النظامية. ومن المفترض أن يتم تعميم هذا الاتفاق في مدن ليبية أخرى، ولكن يبقى ترسخ نمط الميليشيات منذ 2011 في المناطق الليبية عائقًا في تنفيذ هذه الترتيبات التي تحاول حكومة الوفاق الوطني إنجاحها في طرابلس.
2. تعيين رجل الأعمال المصراتي «فتحي باشاغا» وزيرًا للداخلية: يتمتع «باشاغا» بسمعة طيبة لدى الحكومات الغربية لا سيما فيما يتعلق بخبرته في مكافحة الإرهاب؛ حيث عمل مع المستشارين الغربيين ميدانيًا خلال ثورة 2011، وكذلك دوره في الحملة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في مدينة سرت. وأثبت كذلك أنه أكثر قدرة على التعامل مع غيره من نخب مصراتة لتقديم التنازلات مع شرق ليبيا وداعميه من الدول الإقليمية مثل مصر التي كانت مسؤولة عن محادثات سلام بين الأطراف في يوليو/تموز 2017.
وكسر «باشاغا» المحسوبية في تعيينات وزارة الداخلية، وقام بإنشاء إدارة لحقوق الإنسان، ودعا كذلك إلى سحب الأسلحة الثقيلة من طرابلس، إضافة إلى تبنيه مشاريع لتدريب قوات الشرطة النظامية للتغلب على النمط الميليشياتي المنتشر.
3. النجاحات الاقتصادية: حققت حكومة الوفاق الوطني الليبية بعض النجاحات على المستوى الاقتصادي، حيث توصلت إلى اتفاق مع مسئولي البنك المركزي لاصلاح سعر الصرف بما يضمن إمكانية الوصول إلى العملة الصعبة للمواطنين، وتحقيق بعض التخفيضات فيما يتصل بدعم الوقود. وقد قلصت هذه الإجراءات من قدرة الميليشيات على السرقة من الخزانة العامة. والأهم من ذلك، أن هذه الإجراءات تخفف من المعاناة الإنسانية.
البناء على باليرمو
على الرغم من الاشتباكات الدورية وتعمق تقسيم ليبيا بحكم الواقع، فإن النجاحات السابقة تكشف عن نمو حالة من الاستقرار الاقتصادي والأمني وما ينقص ذلك التوافق السياسي بين الأطراف الفاعلة، ما يتطلب من الدول المنخرطة في الأزمة العمل على تقريب وجهات النظر بعيدًا عن المصالح الضيقة سواءً للأطراف الليبية نفسها أو الدول الخارجية خاصة أن جزءًا من الانقسام الذي يغذي الصراع الليبي له جذور في الخارج.
ويأتي التنافس التاريخي بين باريس وروما على ليبيا في مقدمتها، حيث دعمَّت إيطاليا حكومة السراج، فيما تُصر فرنسا على إبقاء «حفتر» في الواجهة.
وإلى جانب ذلك، التنافس الإقليمي بين ائتلاف قطر وتركيا الداعم لحكومة السراج من جهة، ومصر والإمارات اللتان تدعمان مجلس نواب طبرق والمشير «حفتر» لا يصب في صالح حل الأزمة الليبية، إذ يلزم على جميع الأطراف إجبار الليبيين على التفاوض والتوافق فيما بينهم لضمان استقرار المنطقة خاصة في ظل تهديدات تنظيم داعش الذي يُمكن أن يعود وبقوة من خلال البوابة الليبية. في سياقٍ آخر، منح مؤتمر باليرمو فرصة للفرقاء الليبيين لإجراء الانتخابات الوطنية منتصف عام 2019، ما يعني توافق إيطالي فرنسي على إجراء الانتخابات حتى وإن تأخر الأمر؛ حيث كانت تسعى فرنسا لإجرائها أواخر 2018.
وهناك بعض الجهود الدولية الإيجابية لإعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية في ليبيا؛ إذ عرضت إيطاليا مؤخرًا تقديم عدة برامج تدريبية لقوات الأمن لسلطات طرابلس، ولكي تنجح هذه البرامج، يجب على الليبيين التوصل إلى إجماع سياسي حول الهيكل النهائي للقطاع الأمني للبلاد والخطوات التي ستكون ضرورية لبناء ذلك. إجمالًا، اسهمت إجراءات حكومة الوفاق الوطني في طرابلس من تراجع دور الميليشيات خاصة بعد تعيين «باشاغا» وزيرًا للداخلية وسعيه إلى مأسسة وزارة الداخلية وضمان التدريبات اللازمة لعناصرها بالتوازي مع حل ميليشيات طرابلس. وتمثل قمة باليرمو فرصة للتقدم على طول ثلاثة مسارات متوازية، اقتصادية، وأمنية وسياسية.
ولتحقيق هذه الغاية، فإن مهمة الأمم المتحدة، التي كانت ولايتها الرسمية سياسية بشكل أساسي أن تتجه لاستغلال نفوذها وخبراتها نحو تحقيق الاصلاح الاقتصادي والهيكلي بما في ذلك عزل العناصر المسلحة الرافضة للعملية السياسية والبحث عن بدائل أكثر براجماتية واعتدالًا للعمل معها، وضرورة أن تقدم القوى الدولية والإقليمية المتدخلة في الصراع العون لها لتـحقيق هذه الغاية. وفي هذا السياق، يدعـو الباحثان إلى تدخل الولايات المتحدة بوصـفها طرفًا محايدًا في الأزمـة للـعب دور أكثر فاعلية بين الأطـراف الليبية.
ترجمة: محمود جمال
المركز العربي للبحوث والدراسات