الرهان على حرية التعبير

بعد هيمنة مريرة وطويلة لأحد أبشع الانظمة التوليتارية “جمهورية الخوف”، وجد العراقيون ومن شتى الرطانات والخرق والهلوسات أنفسهم وسط اجواء ومناخات، هي مزيج من الحرية والفوضى والانفلات، كانت بواكيرها مع مشاهد الحوسمة الشاملة لعقارات واملاك الدولة. افعال وممارسات مهدت الطريق لرسم ملامح المرحلة المقبلة، حيث حسمت أغلب الخيارات لصالح قوافل الحوسمة والفرهدة والشعوذة، على حساب التطلعات اليتيمة لسكان هذا الوطن المنكوب. ما جرى يمكن التعاطي معه بحكمة ومسؤولية، عبر الوعي الصحيح لاسبابه ودوافعه والقوى التي تقف خلفه، وهذا الوعي لا يمكن الحصول عليه من دون التمهيد للمبدأ المجرب، الذي انتشل سلالات بني آدم من حقب العبودية والتخلف والاذلال، الى حيث الاستقرار والازدهار أي؛ حرية التعبير. هذا هو التحدي الاساس لمرحلتنا الانتقالية وما يتبعها من مسؤوليات وتحديات.
هذا المبدأ والذي جسدته عبارة فولتير (1694-1778) المشهورة: “قد أختلف معك في الرأي، ولكني مستعد أن ادفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك” مثل احد أهم اسس الثورة الفرنسية العظمى (1789) والتي شرعت الأبواب امام البشرية للارتقاء الى ماهي عليه اليوم من تقدم وتمدن وازدهار.
في العراق اليوم يجري الحديث كثيرا عن حاجة البلد الى النهوض واعادة البناء والاعمار، ولن نجد فصيلا أو تكتلا او جماعة ما لا تستعرض مواهبها في هذا المجال، الا انها لا تجد أدنى أهمية، أو لا تلتفت للوشائج الوثيقة التي تربط كل ذلك بملف (حرية التعبير). لأسباب شتى (موضوعية وذاتية) لا تتجنب هذه القوى المتنفذة حالياً هذا الموضوع وحسب، بل نجدها غالباً ما تبذل قصارى جهدها للالتفاف عليه، واخراجه بشكل يتناسب ومقاييسها ومعاييرها الفئوية الضيقة. وما سلسلة مشاريع القوانين التي قدمت لمجلس النواب في دوراته المختلفة، حول هذا الملف الحيوي (حرية التعبير ومستوياتها وتجلياتها المتعددة) الا دليل واضح على ذلك.
كما ان تلاقي غالبية القوى والكتل المتنفذة في الموقف منه، لم يكن بمحض الصدفة، حيث تعي جميعها خطورة ذلك على نفوذها وهيمنتها التي تستند الى كثبان هائلة من الاكاذيب والأضاليل والتعبئة الديماغوجية، والتي ستتقوض لا محالة مع أول اصطدام لها وهذا القادم المشاكس لمضارب اغتربت عنه لأكثر من الف عام وعام.
ان هذه القوى المحافظة والتقليدية والمتخلفة تحاول أن تستثمر المواقف القلقة والمترددة والمعادية أحياناً، من قبل قطاعات شعبية واسعة لهذا الوافد الجديد (حرية التعبير) بوصفه اعتداء صارخاً على ثوابت عبودية وسبات آمن عاشته هذه الحشود لقرون عديدة، ومن ذلك يمكن فك طلاسم ما يحدث لدينا شعبياً ورسمياً في هذا الحقل الحيوي. يمكن فهم علل هشاشة وبؤس وصبيانية التعاطي مع هذا الدفق الهائل والمفاجئ من الحقوق والحريات التي هطلت علينا من دون سابق تمهيد أو انذار.
ولن يجد المتابع والمراقب الحصيف للمشهد الراهن، اية صعوبة في التعرف على طبيعة ونوع تعامل الطبقة السياسية التي هيمنت على مقاليد امور عراق ما بعد الفتح الديمقراطي المبين، مع هذا الملف الاكثر اهمية في رسم مصائر المجتمعات والدول الحديثة؛ حيث تسعى دائماً لاستغلال ما ينضح من صعوبات وعسر في تجلياته على ارض الواقع، لصالح العودة والحنين لزمن الوصاية وهذه المرة عبر افراغ كل ما له صلة بهذا الملف من محتواه المناصر للعقلانية والحداثة والحريات…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة