د. قحطان حسين طاهر
تتوق الشعوب التي ترزح تحت نير الاستبداد والطغيان إلى اليوم الذي تتحرر فيه من الحكومات المستبدة وتصبح فيه قادرة على اختيار قادتها بكل حرية، ليتولى هؤلاء القادة والحكام مهمة توفير متطلبات العيش الكريم وبناء دولهم على وفق معايير الدولة المدنية الحديثة، وما أن تتحقق الفرصة لهذه الشعوب للخلاص من الأنظمة الدكتاتورية حتى تشرع قياداتها الجديدة في وضع خطط لتهيئة مستلزمات البناء الديمقراطي أملا في ترسيخ الديمقراطية في مجتمعات ذات قيم وثقافة وسلوك قد لا تمت إلى الفكر الديمقراطي بصلة، ومن هنا تبدأ التحدّيات التي تواجه العملية السياسية في مرحلة ما بعد الدكتاتورية، إذ إن التغيير المفاجئ والسريع من نظام دكتاتوري صارم إلى نظام آخر يُراد له أن يكون ديمقراطياً، لن يضمن ترسيخ الأطر السياسية والقانونية والفكرية والثقافية والاجتماعية التي تسهم في تأسيس دولة ذات نظام ديمقراطي حقيقي مستقر، وسرعان ما تدرك الشعوب وقياداتها الجديدة أن الطريق نحو الديمقراطية ليس معبدا بالورود، بل هو مليء بالأشواك لا بل بالمنعطفات الخطيرة جدا والتي تتطلب قيادة حكيمة وشعوب واعية، فضلا عن دعم خارجي للوصول إلى بر الديمقراطية الآمن، لذلك فان الإنتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية يمر في مرحلة لا تخلو من شقاء ومعاناة ومخاض عسير قد تنطوي على فشل، ومن ثم ارتداد للدكتاتورية في أسوأ تقدير. إن الديمقراطية الناشئة تواجه تحديات عديدة قد تؤدي إلى فشلها إذا لم يتم إتخاذ اجراءات تضمن تجاوزها، وبالتالي ضبط مسيرة التحول الديمقراطي بنجاح، وتتمثل هذه بالآتي:-
أولا: على المستوى الداخلي:
1 – تواجه الديمقراطية الناشئة خطر الاحزاب السياسية ذات الإيديولوجية غير المؤمنة بالديمقراطية والزعامات ذات النهج العقائدي غير المنسجم مع قيم الديمقراطية، فنلاحظ أنها أحيانا لا تحترم نتائج الانتخابات ولا تقبل بتسليم السلطة سلميا أو أنها تسعى للبقاء في السلطة من خلال ممارسات غير قانونية كما حدث في الكونغو وزيمبابوي والغابون في عامي 2016 و2017.
2 – إنعدام تكافؤ الفرص في ممارسة الحقوق السياسية، إذ تعمل الأموال على تمكين المشاركة السياسية لبعض الاحزاب دون الاخرى من خلال امتلاك القدرة على الوصول للناخبين ونشر الأفكار والبرامج وتنظيم المؤيدين، وهذا من شأنه إيجاد حالة من انعدام المنافسة المتكافئة بين الاحزاب والكيانات المشاركة في الانتخابات، مما يؤدي إلى انحسار دور الاحزاب التي لا تمتلك التمويل اللازم، وبالتالي تفقد فئات واسعة من الشعب الحق في التمثيل وبالتالي تفقد الثقة بالديمقراطية كأسلوب لانتخاب ممثلين عنهم في الحكومة.
3 – انقسام المجتمع إلى ولاءات متعددة على أسس دينية ومذهبية وقومية وقبلية بتشجيع من القيادات الدينية والقومية والعشائرية، في ظل غياب روح المواطنة وفقدان القانون لهيبته، مما يؤدي إلى تزايد هيمنة الولاءات الفرعية مقابل ضعف الولاء للدولة والقانون فيتعزز بذلك دور الدين أو المذهب أو العشيرة أو القومية لتكون مقدمة لصراع بين هذه المكونات قد يعصف بالعملية الديمقراطية.
4 -غياب الطبقة الوسطى ذات الوعي المعرفي والثقافي المطلوب لقيادة المجتمع نحو الديمقراطية، فهذه الطبقة تمثل أهم الوسائل لتحويل المطالب والحاجات الشعبية إلى سياسات عامة، بما يضمن تحقيق المشاركة الديمقراطية الواسعة والفاعلة عبر المؤسسات والمنظمات الوسيطة كالأحزاب وجماعات المصالح ومنظمات المجتمع المدني من أجل زيادة نطاق وفعالية المشاركة الجماهيرية في عملية صنع القرار بما يضمن خدمة المصلحة العامة.
5 – قد يشهد الفساد بكل أنواعه أستشراءاً لأسباب عديدة خلال مرحلة التحول الديمقراطي، فضعف السلطة المرافق لمثل هذا التحول يؤدي إلى إضعاف قنوات الضبط والسيطرة على المال العام، كما أن صعود نخب سياسية جديدة إلى المسرح السياسي قد يرافقه نزعة لتحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز أرصدتها المالية بما يجعلها قادرة على البقاء في المسرح السياسي، كما هو الحال في العراق. وهذا من شأنه زعزعة الثقة بالديمقراطية.
6 – إرتفاع درجة التوقعات لنتائج الديمقراطية والتي تتراوح بين المغالاة والتدني فإذا كانت التوقعات عالية على نحو غير واقعي، وكان الناس يتوقعون من الديمقراطية أن تجلب لهم الازدهار والصحة والتعليم وفرص العمل والأمن على وجه السرعة، فإنهم سيصابون بخيبة أمل كبيرة، وسيسقط دعمهم للديمقراطية ويتلاشى بالتدريج، فالديمقراطية ليست حلَاً سحرياً، ولا يعني الحصول عليها ضماناً للسعادة والصحة والغنى بين ليلة وضحاها، أما إذا كانت التوقعات واقعية، فيتوقع الناس انتخابات غير عادلة، وتصرفات غير قانونية من قبل بعض مسؤولي الحكومة، وسلوك غير مقبول من قبل القائمين على مؤسسات الدولة، فإنهم سيستسلمون عندئذ للعيش وفقاً للمظهر الخارجي للديمقراطية فقط، وليس وفقا لمضمونها الجوهري.
7 – هنالك خطر من تحول الديمقراطية إلى أداة للظلم، سيما في المجتمعات ذات التنوعات العرقية أو الدينية أو المذهبية أو العائلية أو العشائرية، إذ عندما تحصل مشكلات على صعيد الأمن والاستقرار السياسي، يقوم الكثير من الساسة بإلقاء اللوم على جماعات معينة، وعلى الأغلب الأقليات، وقد تتعرض بعض الفئات الاجتماعية للظلم، مما يؤدي إلى غياب العدالة والمساواة الذي يجعل الديمقراطية عرضة لفقدان الثقة والاحترام بين الفئات المظلومة.
8 – مغالاة بعض الشعوب في استعمال الحقوق والحريات التي تتيحها الديمقراطية وبطريقة تبتعد كثيرا عن المعقول والمقبول قانوناً، وكل هذا يحدث بسبب الفهم الخاطئ للنظام الديمقراطي والاستغلال السيء للحريات التي يكفلها، مما يخلق حالة من الفوضى وعدم الانضباط في سلوك الكثير من أفراد المجتمع فتزدهر الممارسات غير القانونية وتنتشر الاعمال المنافية للأخلاق، وهذا يؤدي إلى رسم صورة مشوهة للديمقراطية في أذهان فئات اجتماعية واسعة مما يخلق قناعة لديها بأن الديمقراطية غير صالحة لمجتمعاتهم.
9 – عندما تسعى سلطات الدولة إلى تشريع القوانين وإصدار القرارات التي تمنح أعضاء هذه السلطات حقوقا وامتيازات مبالغ فيها، في الوقت الذي تعاني فيه طبقات اجتماعية واسعة من الفقر والحرمان وانعدام فرص العمل الأمر الذي يؤدي إلى شعور لدى هذه الطبقات بأن الديمقراطية ما هي إلاَ نظام حكم يمثل دكتاتورية الأقلية، مما يخلق فجوة كبيرة بين الفئة الحاكمة والمحكومة.
10 – عندما تُصاغ القوانين التي تنظم حقوق المشاركة السياسية مثل قانون الانتخاب والترشيح، بشكل يضمن بقاء المتنفذين على رأس هرم السلطة وتحرم غير المتنفذين من المنافسة، وتقلل فرص التمثيل الحقيقي للشعوب في حكومات يفترض أنها ديمقراطية، عند ذاك تتغير النظرة الإيجابية للديمقراطية إلى أخرى سلبية عند الشعوب فيصبح بذلك النظام الديمقراطي منبوذا ويجعل الشعب يتحيّن الفرصة التي يراها مناسبة للانقضاض على هذا النظام وتطبيق نظام آخر أكثر ملائمة. ثانياً:- على المستوى الخارجي:
1 – عندما يتم تغيير الانظمة الدكتاتورية بفعل التدّخل العسكري الخارجي تقوم الدولة القائمة بالاحتلال بتطبيق النظام الديمقراطي في الدولة المحتلة وفق معايير وشروط لا تتناسب مع ثقافة وقيم وطبيعة شعب الدولة المُحتلة، مما يؤدي إلى ردود فعل سلبية قد تقوض التجربة الديمقراطية، أو قد تتخذ الدولة القائمة بالاحتلال اجراءات غير مدروسة على صعيد مؤسسات الدولة القانونية والدستورية مما ينتج عنه ردود فعل شعبية عامة او خاصة قد تؤدي إلى حرب أهلية أو مقاومة للاحتلال، وينتج بذلك وضع أمني غير مستقر وتتشكل فصائل مسلحة خارج نطاق القانون، وتفقد الدولة سيطرتها وتزداد هيمنة هذه الفصائل على المشهد السياسي وهذا بحد ذاته خطر على النظام الديمقراطي الناشئ.
2 – تشكّل التدّخلات الخارجية في الشأن الداخلي للدول ذات الديمقراطية الناشئة خطراً حقيقياً قد يؤدي إلى تقويض عملية التحول الديمقراطي، ويأتي هذا التدخل لأسباب متعددة منها بقصد إفشال التجربة الديمقراطية كي لا يشكّل نجاحها دافعاً لشعوب دول المنطقة الأخرى المحكومة بأنظمة دكتاتورية، للمطالبة بتطبيق النظام الديمقراطي. كما يتم التدّخل الخارجي أحياناً بتأييد دولة معينة لفئة سياسية أو اجتماعية معينة داخل الدولة المتحوّلة للديمقراطية من أجل اتخاذها أداة للنفوذ والهيمنة، مما يشجع دولاً أخرى للقيام بتدخل مشابه وللغرض نفسه، فتتحول الدولة ذات الديمقراطية الناشئة إلى ساحة لتصفية المصالح بين الدول الاقليمية مما يشكّل خطراً على الديمقراطية.
3- غياب الدعم الدولي اللازم لترسيخ الديمقراطية الناشئة في بعض الدول، فالدولة الحديثة العهد بالديمقراطية تحتاج إلى دعم بالمشورة والجهد الفني والدعم المادي احياناً والتدريب لملاكات المؤسسات الديمقراطية، وهذا الدعم سواء كان من منظمات دولية فاعلة كالأمم المتحدة أو غيرها أو من الدول الفاعلة والمؤثرة في النظام الدولي، وهذا ضروري لتثبيت أركان النظام الديمقراطي وضمان عدم انحرافه إلى مسار خاطئ. إن هذه التحديات وغيرها قد تشكل معوقات حقيقية أمام الديمقراطيات الناشئة يصعب اجتيازها مما يربك النظام السياسي ويهيئ لظروف فشل الديمقراطية الناشئة، وبالنتيجة النهائية من الممكن أن تشهد الأوضاع صيرورة سلبية تأخذ سبيل الارتـداد إلى النظـام الدكتاتـوري.
* مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية