سلسلة مقالات من كتاب (مجلة لقمان) لشوقي عبد الأمير

منذ سنوات وهذه الفكرة قائمة أن ينشر هذا الكتاب على حلقات في الزميلة « الصباح الجديد « واليوم يسرني ان اصنع بين يدي صديقي وزميلي العزيز اسماعيل زاير رئيس التحرير « مجلة لقمان « وهو كتاب الذي استغرقت في اعداده ست سنوات وقد جاءت فكرته من غياب رافد مهم من روافد ادبنا ولغتنا وهو « النثر الجاهلي «
——————
المفارقة الكبيرة تكمن في أن الشعر الجاهلي وصلنا ولو مجزأ في عدد من الكتب والمعلقات والدواوين، اما النثر فلا يوجد حتى كتاب واحد يجمعه، علما ان كان منتشرا جدا ويملأ اسواق وحياة العرب قبل الاسلام كما يؤكد ذلك كل المؤرخين العرب لكنهم لم يجمعوا هذا النثر ولم يعتنوا به وظل متفرقا مبعثرا في كتب التاريخ
من هنا تأتي اهمية جمع هذا التراث العظيم ونشره في كتاب خاص به .
بالطبع ان عدم الاهتمام بالنثر قبل الاسلام يفسر بنظريات عدة بعضها شكلي باعتباره اصعب للحفظ على الذاكرة الشفاهية ولكن هذه الحجة واهية ولا تكفي والمسألة مرتبطة بظهور الاسلام والموقف من الادب قبله.
عفيراء الكاهنة تعبر رؤيا مرثد بن عبد كلال:
روي أن مرثد بن عبد كلال قفل من غزاة غزاها بغنائم عظيمة؛ فوفد عليه زعماء العرب وشعراؤها وخطباؤها يهنئونه؛ فرفع الحجاب عن الوافدين، وأوسعهم عطاء، واشتد سروره بهم؛ فبينما هو كذلك إذ نام يومًا فرأى رؤيا في المنام أخافته وأذعرته وهالته في حال منامه؛ فلما انتبه أنسيها حتى لم يذكر منها شيئًا، وثبت ارتياعه في نفسه بها؛ فانقلب سروره حزنًا، واحتجب عن الوفود حتى أساءوا به الظن، ثم إنه حشر الكهان فجعل يخلو بكاهن كاهن، ثم يقول له: أخبرني عما أريد أن أسألك عنه،
فيجيبه الكاهن بأن لا علم عندي، حتى لم يدع كاهنًا عليه إلا كان إليه منه ذلك؛ فتضاعف قلقه، وطال أرقه، وكانت أمه قد تكهنت؛ فقالت له: أبيت اللعن أيها الملك، إن الكواهن أهدى إلى ما تسأل عنه؛ لأن أتباع الكواهن من الجان، ألطف وأظرف من أتباع الكهان؛ فأمر بحشر الكواهن إليه، وسألهن كما سأل الكهان، فلم يجد عند واحدة منهن علمًا مما أراد علمه، ولما يئس من طلبته سلا عنها، ثم إنه بعد ذلك ذهب يتصيد، فأوغل في طلب الصيد، وانفرد عن أصحابه؛ فرفعت له أبيات من ذرا جبل، وكان قد لفحه الهجير؛ فعدل إلى الأبيات، وقصد بيتًا منها كان منفردًا عنها؛ فبرزت إليه منه عجوز؛ فقالت له: انزل بالرحب والسعة، والأمن والدعة، والجفنة المدعدعة، والعلبة المترعة، فنزل عن جواده، ودخل البيت؛ فلما احتجت عن الشمس، وحفقت عليه الأرواح، نام فلم يستيقظ حتى تصرم الهجير؛ فجلس يمسح عينه؛ فإذا هو بين يديه فتاة لم ير مثلها قوامًا ولا جمالًا؛ فقالت: «أبيت اللعن أيها الملك الهمام! هل لك في الطعام؟ « فاشتد إشفاقه وخاف على نفسه لما رأى أنها عرفته، وتصام عن كلمتها؛ فقالت له: «لا حذر، فداك البشر، فجدك الأكبر، وحظنا بك الأوفر». ثم قربت إليه ثريدًا وقد يدًا وحيسًا، وقامت تذب عنه، حتى انتهى أكله، ثم سقته لبنًا صريفًا وضريبًا؛ فشرب ما شاء، وجعل يتأملها مقبلة ومدبرة؛ فملأت عينيه حسنًا، وقلبه هوى، فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي عفيراء، فقال لها: يا عفيراء، من الذي دعوته بالملك الهمام؟ قالت: «مرثد العظيم الشأن، حاش الكواهن والكهان، لمعضلة بعد عنها الجان»، فقال يا عفيراء: أتعلمين تلك المعضلة؟ قالت: «أجل أيها الملك، إنها رؤيا منام، ليست بأضغاث أحلام». قالت الملك: أصبت يا عفيراء، فما تلك الرؤيا؟ قالت: «رأيت أعاصير زابع بعضها لبعض تابع، فيها لهب لامع، ولها دخان ساطع، يقفوها نهر متدافع، وسمعت فيما أنت سامع، دعاء ذي جرس صادع: هلموا إلى الشارع4، فروي جارع، وغرق كارع» فقال الملك: أجل، هذه رؤياي؛ فما تأويلها يا عفيراء؟ قالت: «الأعاصير الزوابع، ملوك تبابع، والنهر علم واسع، والداعي نبي شافع، والجارع ولي تابع، والكارع عدو منازع». فقال الملك: يا عفيراء، أسلم هذا النبي أم حرب؟ فقالت: «أقسم برافع السماء ومنزل الماء من القماء، إنه لمطل الدماء، ومنطق العقائل نطق الإماء». فقال الملك: إلام يدعو يا عفيراء؟ قالت: «إلى صلاة وصيام، وصلة أرحام، وكسر أصنام: وتعطيل أزلام، واجتناب آثام» فقال الملك: يا غفيراء، إذا ذبح قومه فمن أعضاده؟ قالت: أعضاده غطاريف يمانون، طائرهم به ميمون، يغزيهم فيغزون، ويدمث بهم الحزون وإلى نصره يعتزون». فأطرق الملك يؤامر4 نفسه في خطبتها، فقالت: «أبيت اللعن أيها الملك! إن تابعي غيور، ولأمري صبور، وناكحي مثبور، والكلف بي ثبور5». فنهض الملك وجال في صهوة6 جواده، وانطلق، فبعث إليها بمائة ناقة كوماء7.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة