دورين نصر
إنّ أوّل ما يلاحظه القارئ عندما يمسك برواية نزار عبد الستار هاتين الوحدتين الصوتيّتين المتوازيتين اللّتين تشكّلان عنوان الرواية: «تِرْتِر»، كلمةٌ لا يعرف معناها إلاّ من يقصد البحث عنها. تعني هذه الكلمة معجميًّا: «رقائق معدنيّة أو بلاستيكيّة مستديرة لامعة، صغيرة ذات ألوان متعدّدة توشّى بها ملابس النساء». كما يمكن أن يحمل هذا العنوان دلالة تضمينيّة، تجعلنا نتساءل: هل هو فعلاً مرتبط بالأزياء؟ أو أراد الكاتب من خلاله التعبير عن حركة تؤدّيها الشخصيّة الأساسيّة في تكوين الرواية؟ وماذا أراد الروائي أن يقدّم من خلال تموضعه الورقي؟ الأمر الذي لا يمكن إثباته إلاّ عبر مقاربة ودراسة منهجيّة.
تتألّف هذه الرواية من ثمانٍ وسبعين صفحة بعد المائتين مقسّمة إلى أحَدَ عشرَ فصلاً. تدور أحداث هذه الرواية بين اسطنبول والبصرة والموصل، وقد وظّف الروائي هذه الحكاية المستقاة من التاريخ العربي الممتدّ من سنة 1898 حتّى 1918 ليتناول جوانب من طبيعة التحوّل في المجتمع العراقي. وقد استحوذت الفصول التي تتحدّث عن الموصل على القسم الأكبر من الرواية، وهذا ما يدلّ على أن نزار عبد الستار أراد التركيز على هذه الحقبة الممتدّة على فترة عَقدين من الزمن بكلّ أبعادها تاريخياً واجتماعياً. بَيْدَ أنّ التباين في حجم الفصول هو تباين شكلي ليس إلاّ. فالفصل القصير في حجمه، هو بشكل ما فصلٌ طويل بزمنه وكثافته الداخلية، كالفصل الثاني مثلاً، الذي عُدَّ فصلاً مفصليًّا، إذ حصلت فيه أحداثٌ متتالية. وصلت البطلة آينور إلى البصرة، وهيمن الإنكليز على أسواق الموصل، وتساهلت الدولة العثمانيّة مع الوجود الإنكليزي الذي يمدّ العشائر الكبيرة بالمال كي تبقى في نزاع مع العشائر الصغيرة. كما سُلِّط الضوء على تفكير الشعب العراقيّ الذي يعتبر بأنّ «الحضارة كفرٌ ومعصيةُ الله». كلّ هذا يتطلّب «وقتًا فيزيائيًّا طويلاً» لتكثيف زمن داخلي، والوصول إلى إيجاز مناسب.
لقد عالج الروائي ثنائيّات وموضوعات شتّى كالحبّ والحرب والديكتاتوريّة والحريّة والتقاليد والحداثة، إضافة إلى الصراع بين الشّرق والغرب. وقد انطلقت أحداث الرواية من مؤشّرٍ أولّي قوامه وصول الأمبراطور فيلهلم الثاني إلى الشرق. وتقتصر الشخصيات على «آينور» الشخصيّة المحوريّة إضافةً إلى عدّة شخصيّات رئيسة وثانويّة، وقد وظّفها الكاتب لخدمة الشخصيّة المحوريّة. انطلاقاً من تعريف رولان بارت للشخصيّة بأنّها «كائنات ورقيّة يبتدعها الروائي لتؤدي أدواراً مختلفة». واستناداً إلى فيليب هامون، الذي يعتبر بأنّه بين عمليّة التأويل التي يقوم بها القارئ لإدراك مدلولات الشخصيّات، وعمليّة الخلق التي يقوم بها المؤلّف: «تنتصب الشخصيّة كإسقاط لصورة سلوكيّة مسنّنة داخل نوع ثقافي خاصّ» فتغدو الشخصيّة «علامة»، تقوم ببناء الموضوع، ذلك أنّ النّص الأدبي ما هو إلاّ مدوّنة كلاميّة وعلاقته بلغة التداول علاقة مرحليّة، الأمر الذي يجعل الكتابة الأدبيّة أكثر إيحاءً ورمزيّةً بدلالاتها وتراكيبها، عمّا هو تقرير مباشر.
اسم آينور مؤنّث تركي الأصل ويعني نور القمر، ويحمل هذا الاسم الكثير من الصفات والمزايا التي سيكون لها تأثير كبير على صاحبته… إذ يقول: «أينما تجوّلت آينور تحرّك خلفها موجات من الرجال المذهولين، يلحقون بها من أجل مواصلة النظر إلى جمالها الذي أفلتته الجنّة…» فهل هي الذات السّاردة؟ وهل أعطاها الروائي أولويةً في الظهور.؟
لقد اعتنى نزار عبد الستار في وصف هذه الشخصيّة خارجيّاً وداخليّاً، عناية دقيقة، فبدت رياديّة، تتمتّع بالسلطة والذكاء والقوّة إلى جانب تمتّعها بالرقّة والطفولة والخجل، فهي: «باهتة البياض وشقراء، لكنّها غير مأسورة في فساتينها، ولا مستسلمة للرقّة، والرهافة الناعسة، وجهُها طفولي، لكنّها شرسة، وقويّة التحدّي…»
لقد دارت حول آينور جميع الأحداث في الفصول كافّة، ونهضت بالعمل الروائي لكونها المحرّك لمجمل عناصره، وبعثت فيه الحركة عبر «تداعيات الماضي البعيد والقريب» .بالتالي دورها في قيادة العمل الروائي نابع من محوريّتها القياديّة.: فهي التي وجدت بأنّ الموصل على الرغم من تعاملاتها المفتوحة مع الإنكليز والهند وروسيا، وبلاد فارس، غير راغبة في تقبُّل المظاهر التي تتطلّبُها أهميّتُها.لقد حَلَمت آينور بأن تجعل هذه المدنية تستعيد مجد نسيج الموسلين العظيم، وقد تمكّنت بفعل إرادتها القويّة وعزيمتها من تحقيق هذا الحلم على الرّغم من فشل سكّةِ الحديد.
إن كانت تِرتِر زينة للقماش، فآينور فيها هي زينة فكريّة. لقد بدت كإلهة عظيمة، امرأة حكيمة تحدّت جبروت ثلاث دول عظمى هي: إنكلترا وفرنسا وروسيا القيصريّة، لكنّها لا تلبث أن تستسلم إلى هواجسها الأنثوية من حين إلى آخر إذ لا يستطيع الدّارس ألاّ يتنبّه إلى هذا الضوء الساطع الموجّه إلى هذه المرأة وقد نسجه نزارعبد الستار بخيوط من ذهب. فلم يتمكّن بالتالي من الابتعاد عن هذه الذاتيّة والشواهد متناثرة في الصفحات (150، 248) وغيرها. ومن بين الشّخصيات التي لعبت دورًا مؤثّرًا في حياة الشخصيّىة المحوريّة» «رودولف»، خطيب آينور، محرّك الفعل السردي، ومصمّم الأزياء الذي اختفى بظروف غامضة، لم نعرف إن كان قد انتحر في السجن أو قُتِلَ. أحبّته آينور وقد بقي ظلّه يرافقُها طيلة الرواية، على الرّغم من اعتقادها بأنّه يخونها مع نساء الجنّة. وما يستدعي الانتباه أنّ الكاتب جعل رودولف وسيطاً بين الفصول. فبدا حلقة وصل بين أجزاء الرواية ووحدات النّصّ. وكانت آينور تتحدّث عنه بالاستذكار، وهذا ما جعل الزمن يبدو متقطّعاً بعد أن كان تعاقبيّاً في أحداثه.
لهذا النوع من الشخصيات وظيفة ورسالة يؤدّيها ولا يمكن الاستغناء عنها. ومن الشخصيّات الثانويّة أيضًا التي أثّرت في تطوّر الأحداث، الطبيب جرجس الذي درس الطبّ على أيدي الآباء اليسوعيين في بيروت، والسير هنري الذي لعب دورًا معاكسًا في مسيرة أينور، والشيخ الحكيم سعد الدين صاحب «كتاب الشطرنج» الذي أبقاه السلطان عبد الحميد في منزله لأنّه اعتبر بأنّ الله ليس بحاجةٍ إلى دولةٍ ولا سلاطين.
لقد أظهرت كلُّ هذه التفاصيل بأنّ الراوي يعرف أكثر من الشخصيّة، وهذا ما يدلّ بالعودة إلى جيرار جينيت بأن «التبئير صفر» (focalization). كما أنّه على علمٍ عميق بمشاعر الشخصيات إذ يقول متحدّثاً عن آينور: «كانت تنتظر حلول الليل لتتستّر على حُزنها وتهوّن المشقّة على حواسها»، فيكون الروائي بذلك قد قمع امتدادات الشخصية وأنضب معارفها وفسح مجالاً واسعاً أمام الراوي.
تأسيساً على ما سبق، يمكننا أن نستنتج المنظور على المستوى الإيديولوجي. ولكن ما هي الإيدولوجيا؟ وما هو حدّها؟
في القرن العشرين، بدأ مفهوم الإيديولوجيا يتحدّد ويستقلّ نسبيّاً عن المفاهيم الفلسفيّة المجرّدة وعن التصوّرات الدينيّة، ويأخذ شكل تصوّرات اجتماعيّة تستوعب حركة التطوّر وتؤثّر فيها عن طريق التنظيمات السياسية التي تحمل لواءَها. فقد أشار «لالاند» إلى المعنى الماركسي لكلمة الإيديولوجيا، وعرّفها بأنّها «التفكير المعبّر عن المصالح الحيويّة لطبقة اجتماعية معيّنة». ولئن حملت الإيديولوجيا دلالات كثيرة ومتنوّعة تباينت بين المفكرين والباحثين، فإنّه يُلحظ بأنّها منظومة من الأفكار تهدف إلى غاية عمليّة. إنّها تتناول بالدرجة الأولى السياسة والاجتماع من دون أن تكتفي بهما، وعلى هذا الأساس، يمكن التمييز بين إيديولوجيات جزئيّة وبين إيديولوجيات كليّة، بين إيديولوجيات دينيّة وقوميّة وديمقراطيّة وبورجوازيّة واشتراكيّة وتحرريّة وشيوعيّة وموضوعيّة. فكيف تمظهر هذا الصراع الإيديولوجي في الرواية بشكل عام؟
إنّ ما استدعى انتباهنا أولاً، هذه الصورة التي قدّمها الكاتب عن طريقة تفكير هذا الشعب. فالطبيب جرجس كان يصف عقولهم قائلاً: (صفحة 108) «أورام العفن التي في أدمغة النّاس هنا».
«هنا لا يؤمنون بضرورة التعقيم مع العمليات الجراحية لأنّ روح الله في المِشرَط»
«يصدّقون وجود الشيطان وينكرون وجود الجرثومة» أمّا السير هنري الذي حاول أن يحبط عزيمة آينور، فكان يقول:»هنا لن يصنعوا شيئاً ولن يزرعوا، ما دامت النساء في البيوت والرجال في المقاهي»
وأختمُ الشواهد بهذه العبارات التي وردت على لسان السير هنري: «عبيدُنا الآن هم الأغبياء». «أنتِ تفسدين الموصل، الفرح لا يناسب هؤلاء، إنّهم يتجهّزون للقبر».
كلُّ هذه الشواهد تبيّن بوضوح رؤية الكاتب في هذه الرواية: إنّه الصراع الإيديولوجي على المستوى الاجتماعي بين ممثّلي الفئات المسيطِرة وممثلي الفئات المسيطَر عليها، وقد تمثّل ذلك من خلال عوامل متعدّدة كشفها الروائي في النص، وكشفت بدورها عن صراع المفاهيم والقيم المحرّكة لكلتا الطبقتين. والأمر مماثل من الناحية الدينيّة، والشيخ الحكيم سعد الدين قد مثّل «العامل المساعد» بالنسبة إلى آينور إذ طلب منها مغادرة الموصل قبل أن يفقد عبد الحميد سلطانه معتبرًا «أنّ هذه البلاد لا تريد الحياة ولا تملك العقل لتدرك مصيبتها».
من خلال هذه الإشارات، نجح الروائي في إثارة أسئلة مصيريّة ووجوديّة، تَمَسُّ الكيان الإنساني. فالدعوة موجّهة إلى الشعب الغارق في الظلام، يدعوه إلى النهوض والتحرّر والانعتاق، راغبًا في إثبات الذات والوجود والعيش باحترام وكرامة، وآملاً في تأسيس مستقبل أفضل قوامه الوعي والثقافة والحلم.
من الزاوية التاريخيّة نشير إلى فشل سكّة حديد برلين – بغداد وقد أزيح في الوقت عينه السلطان عبد الحميد، بَيْدَ أنّ آينور تمكّنت من تحقيق حُلْمِها بِنَسْج الموسلين مع أنّها اختفت في ظروفٍ غامضة. فهل صنّف الكاتب في نهاية روايته في عداد المبدعين أو أنّه تلاقى مع من سبقه إلى مثيلاتها كرواية جورج أورول «1984» ورواية «المئوي الذي هبط من النافذة واختفى» للكاتب يوناس يوناسون وغيرها من الروايات…؟
وهكذا، يبدو ممّا تقدّم أنّ الروائي، هو الراوي الغائب عن المشاركة في الأحداث وعن مشاهدتها، الحاضر في الرواية حضوراً مهيمناً، وهو يعرف أكثر من الشخصيّة، بل هو العارف بكلّ شيء، يختار المادّة الروائيّة ويؤدّيها ويحرّك الشخصيّات، غير أنّه وهو يمسك مختلف الخيوط، يتيح للشخصيّات أن تّحضُر، فنسمعَ أصواتَها إمّا مختلطةً بصوته أو منفردةً بذاتها ولو بشكلٍ قصير، ومقتضب.. وتبقى في حالاتها جميعاً مشدودةً إلى نسيجها. لقد كتب نزار كل ذلك بلغةٍ تأخذ بجانب من الشاعريّة، ما حقّق للنصّ تكافؤاً بنيوياً إذ سمح بتسرّب الدّفق الإيديولوجي عبر قنوات الوظيفة الجماليّة.
فعبد الستّار لم يبقَ روائياً أو قاصّاً فحسب، بل بات مؤرّخاً، طبيباً نسائياً، مهندس طرقات، تاجراً، معالجاً نفسانيّاً… وسْط هذا الالتباس، تبدو «الأنا» روحاً جامعة لما سواها وما حَوْلها… ما يجعلُ القبضَ على «الأنا» مهمّة صعبة للغاية ومضنية.
وفي النهاية، تصلحُ العودة إلى البداية، أي النقطة التي انطلقت منها الدراسة ألا وهي العنوان: فهل «تِرتِر» اسْتُخدمت بمعناها التعييني كزينة للقماش، بحيث حقّقت آينور حُلْمها بنسجِ الموسلين؟ أو أنّ هذا العنوان يشير تضمينًا إلى شخصية آينور «كزينة فكريّة» على أنسجة أوراق الرواية؟