مذكرات الرئيس جلال طالباني

رحلة ستين عاماً من التكية الى قصر السلام
( لقاء العمر)
تضع “الصباح الجديد” بين يدي القارئ الكريم ما يمكن أن يوصف بمذكرات للرئيس الراحل جلال طالباني، وتتميز المذكرات وهي عبارة عن بوحٍ متصل للأستاذ صلاح رشيد، بأنها صورة مفصلة بل تشريح سياسي لمرحلة حاسمة في تاريخ العراق تشمل السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وحتى يومنا هذا.
وعلى عكس ما عُرِف عن مام جلال من دبلوماسية ونزوع نحو التسويات التي عرف بها خلال ثماني سنوات من جلوسه على مقعد رئاسة الجمهورية العراقية، فأنه على العكس من كل ذلك يدلي بآراء في غالبيتها إشكالية، ونحن لا نتحدث عن المعلومات وسرد المعطيات التاريخية لعلاقته بصدام حسين وفرقه المختلفة للتفاوض مع الاكراد، بل أنه يتجاوز الى العلاقة مع إيران وسوريا والولايات المتحدة وبقية الأطراف التي كان لها تماس مع الملف العراقي في مراحله المختلفة، لكننا نتحدث عن الآراء المتعلقة بالشخصيات التي رافقته خلال مرحلة بناء الاتحاد الوطني الكردستاني وتشكيله للبؤرة السياسية في اعقاب عام (1975م) وهزيمة الثورة الكردية أثر اتفاق الجزائر بين الشاه وصدام.
وتشكل المذكرات إنارة معمقة للطريقة التي اتبعها مام جلال في معالجته للتحديات والحلول التي خرج بها لتجاوزها، ولكنها لا تخلو أيضًا من اضاءة البعد الشخصي لمام جلال مما يساعد في نهاية المطاف الباحثين السياسيين والمواطنين على حد سواء العرب والاكراد على الاطلاع على أسرار لم يجرِ التطرق اليها في الماضي.
وغني عن القول أننا في “الصباح الجديد” نعدّ هذه المذكرات شهادة تاريخية من شأنها أن تستكمل المشهد السياسي العراقي الراهن، وهي تنطوي على مفاجآت وطرائف لا يمكن لأحد من خارج الدائرة الضيقة لمام جلال أن يطلع عليها.
“الصباح الجديد” سوف تنشر القسط الأساسي من هذه المذكرات، وهي لا تتحمل مسؤولية أي آراء قد تنطوي على بعض القسوة هنا وهناك، وستحاول تخفيفها بقدر الإمكان، ونأمل أن يتجاوب الساسة الكرام في كردستان وفي الفضاء العراقي من خلال هذه العملية ويسهموا بدورهم في إضاءة بقية المشهد.
الحلقة 11
إعداد: صلاح رشيد
ترجمة: شيرزاد شيخاني
الحزب الشيوعي والمجموعات اليسارية العراقية
الإنشقاق والإتحاد

* ماذا كان موقف نوري السعيد من تقارب الأحزاب العراقية، وما كان دور الأحزاب اليسارية؟
– حل نوري السعيد جميع الأحزاب وسد عليهم أي سبيل للإعتراض القانوني و الدستوري، منع الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الإستقلال والجبهة الشعبية فتحولوا جميعا الى النضال السري.وكانت علاقاتنا مع جميع هذه الأحزاب جيدة، ومع اليساريين والحزب الشيوعي تسير نحو المزيد من الإضطراد والتقدم.في عام 1955 كانت هناك ثلاثة تنظيمات مختلفة تعمل تحت غطاء الشيوعية، أحدها هو الحزب الشيوعي الأصيل بإسم”جماعة القاعدة”، والآخر جماعة “راية الشغيلة” تحت قيادة عزيز محمد وجمال الحيدري، وتمثل الجناح اليميني بالحزب إنشقوا عنه وعارضوا الشعارات اليسارية والثورية التي تبنتها قيادة الحزب الشيوعي سابقا. والتنظيم الثالث كان بإسم “وحدة الشيوعيين العراقيين” بزعامة الأستاذ عزيز شريف. وكان الأخير هو الأقرب إلينا، فآراء ومواقف الأستاذ عزيز شريف تجاه المسألة الكردية لعبت دورا بارزا في تطور العلاقات المشتركة بيننا.أما من الناحية الآيديولوجية فقد كانت مواقف راية الشغيلة متعارضة تماما مع توجهات البارتي، فهم يعارضون شعار إسقاط الحكم الملكي وتأسيس جمهورية ديمقراطية شعبية وحق تقرير المصير، لكن البارتي يرفع تلك الشعارات ويجهر بها.
أتذكر جيدا بأنني خضت نقاشا مطولا مع صالح الحيدري الذي يمثل جماعة راية الشغيلة حول الديمقراطية الشعبية وقلت له بأنه شعار قديم رفعه ماوتسي تونغ بعد موت لينين، وإستشهدت بحديث لينين حول تكتيكات مفهومي الإشتراكية والديمقراطية وقارنتها بكتاب ماو حول الديمقراطية الحديثة، وكيف تحول شعار الديمقراطية بعد الحرب العالمية الأولى الى الديمقراطية الشعبية والديمقراطية الحديثة، فوجدته قد إصفر وجهه وقال “إذن هذه الطروحات سوف تهز أسسنا الفكرية، فنحن تربينا على أساس أن الديمقراطية الشعبية شعار سيء.. فقلت له “أخي العزيز، جئتكم بما عندي وهذا ما تقوله الماركسية وتجاربها، وأنتم أحرار فيما تفعلون أو لا تفعلون”.

*مادمت تتحدث عن هذه العلاقات الجيدة، لماذا لم يحدث تقارب أكثر؟
– كما قلت كانت علاقاتنا جيدة مع الأطراف الثلاثة معا، وحاولنا التقرب اليهم حتى أنني بادرت عام 1955 بعقد إجتماع سري في وكر لنا قريب من كلية الحقوق شارك فيه ممثلون عن حزبنا وجماعة القاعدة وراية الشغيلة ووحدة الشيوعيين من أجل التقارب.وطرحنا في الإجتماع مقترحا لتوحيد الأجنحة الثلاثة بحضور سلام عادل ومحمد صالح العبدلي عن جماعة القاعدة، ومحمد حمزة سليمان من راية الشغيلة، وعبدالرحيم شريف من وحدة النضال. وقدم سلام عادل مقترحا حول إنضمام البارتي أيضا الى هذا الحزب الجديد على إعتبار أنه حزب ماركسي لينيني، بشرط أن ينضم جميع الشيوعيين الكرد الى البارتي، وأن يبقى البارتي كحزب وطني ديمقراطي ثوري، وأن يبقى الشيوعيون العرب ضمن حزب شيوعي موحد.
من جهتنا أيدنا إنضمام جميع الشيوعيين الكرد الى البارتي وأن تكون هناك قيادة مشتركة مع الحزب الشيوعي الموحد.على كل حال نجحت جهودنا ووساطتنا في دفع جماعة وحدة الشيوعيين العراقيين الى المصالحة مع جماعة القاعدة وأصدرتا بيانا مشتركا للإنضمام الى الحزب الشيوعي.وذكرتا في البيان أن الحزب الشيوعي يثمن دور ونضال وحدة الشيوعيين وسعيها في النضال من أجل نشر المباديء الماركسية اللينينية ومعاداة الإمبريالية والرجعية. أما جماعة وحدة الشيوعيين فقد وجهت لنفسها إنتقادا ذاتيا حول سعيها لتشكيل تنظيم مستقل في وقت هناك حزب شيوعي قائم.وإتفق الطرفان سريعا وظل كل من الأستاذ عزيز شريف وعبدالرحيم شريف في موقعهما القيادي بالحزب الشيوعي العراقي.
لقد ساهم تطرف بعض قيادات جماعة القاعدة وخاصة “باسم” و حميد عثمان الى دفع هذه الجماعة نحو الإنشقاق، فقد كانت هناك خلافات فكرية عميقة بينهم، ولكن بعد أن تزعم سلام عادل الحزب خلفا لحميد عثمان تغيرت الأحوال، لأن سلام كان رجلا هادئا ومرنا ومنفتحا في التعامل مع الآخرين، حاول بهمة ونشاط وبإخلاص تام أن يوحد صفوف حزبه بتوحيد هذه الأجنحة، لقد كان بحق رجلا مناضلا ومتفانيا من أجل حزبه، رغم أنه لم يكن ذا ثقافة عالية، ولكنه كون نفسه بذكائه ونشاطه المتزايد داخل الحزب وإستطاع بمساندة خالد بكداش من توحيد راية الشغيلة. وهكذا نجح سلام عادل في توحيد جميع الأجنحة داخل حزب واحد، وكانت علاقته معنا جيدة للغاية.
في عام 1956 تقدمت مسيرة النضال القومي العربي، خصوصا بعد العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر وصمود وبطولة جمال عبدالناصر بوجه العدوان. ففي أعقاب العدوان تبنت مصر سياسة معاداة الإمبريالية والأحلاف العسكرية والرجعية ومنها حلف بغداد، في ذلك الوقت نما الشعور القومي العربي وإنتشر كاللهيب في معظم الدول العربية. وفي المقابل تطور الشعور القومي الكردي أيضا في كردستان.وتغيرت سياسة الحزب الشيوعي العراقي أيضا حيث أصبح يرفع شعارا يدعو الى وحدة النضال التحرري العربي وتأييد ومساندة نضال الشعوب العربية ودعوته لتحقيق الوحدة العربية على أساس الديمقراطية، وفي ذات الوقت كان يساند نضال الشعب الكردي كما رسم سياستها “باسم “في حق تقرير المصير وصولا الى الإنفصال وتأسيس الدولة القومية الكردية المستقلة.

فهد و المسألة الكردية
*مادمنا في إطار الحديث عن الحزب الشيوعي العراقي و موقفه من المسألة الكردية، هل لك أن تحدثنا عن رأي و موقف فهد من تلك المسألة؟
– إن تحديد الموقف من مسألة حق تقرير المصير كان بالضد من السياسة القديمة للقائد الشيوعي فهد..فكان بدوره يعتبر الكرد مجرد أٌقلية حالهم حال الإيزيديين و الآشوريين و الأرمن، ولهذا لم يتطرق الى مسألة حق تقرير المصير. ولكنه غير موقفه بعد ذلك بمقالين نشرهما في جريدة القاعدة، تطرق خلالهما الى أن للشعب الكردي الحق في تقرير المصير بما فيه حق الإنفصال في حال تحرر العراق من الإمبريالية، أو في أي وقت يراه الشعب الكردي في مصلحته ممارسة ذلك الحق.
وفي مقاله الثاني طالب فهد بأن يتشكل حزب تقدمي في كردستان، وكان عنوان مقاله هو “الشعب الكردي بحاجة الى حزب عمل لا الى حزب أمل “إنتقد خلاله حزب هيوا (الأمل) وإعتبره حزبا رجعيا، ودعا جميع الكرد التقدميين والمخلصين الى تأسيس حزب لنشر الوعي القومي وتنظيم أنفسهم لقيادة الشعب وحركته التحررية.وكان من الممكن لهذا الطرح أن يشكل بداية طيبة لتأسيس علاقة متينة بين البارتي والحزب الشيوعي، وخاصة أن الحزب الشيوعي قد جسد تلك الحقيقة في جمهوريتي مهاباد وآذربايجان، وكان السوفييات يدعمون هذا التوجه.فالسياسة التي إتبعها السوفييت في إيران كسرت تلك القاعدة التي تقول بأنه يفترض أن يكون داخل الدولة الواحدة، حزب واحد فقط يجمع بين جميع القوميات والأقليات. وأعتقد بأن فهد أدرك هذه الحقيقة حين سافر الى موسكو عبر إيران.ولا أستبعد بأن يكون الروس قد نصحوه بذلك، لأنه في مقاله المعنون “الشعب الكردي بحاجة الى حزب عمل”تطرق الى ضرورة وجود حزب تقدمي ثوري كردي لتنظيم وقيادة الشعب وتحقيق أهدافه، ويقول “ستجدون منا كل الدعم والمساندة”.
لكن في عام 1956 وقع حدث طارئ، وهو الجدل الدائر حول ما إذا سيبقى الكرد الشيوعيون داخل الحزب الشيوعي، أم يفترض أن يتجمعوا داخل حزب كردستاني مستقل. بعض الكرد الشيوعيين القدامى منهم خسرو توفيق ونزاد احمد اغا وكاكة فلاح ولطيف المشهور بلطيف سكاير، وآخرين ممن كانوا بارتيين لكنهم إنضموا الى الحزب الشيوعي مثل صالح ديلان، هؤلاء جميعا رأوا بضرورة تجمعهم داخل حزب مستقل وقد أثروا على سكرتير الحزب في ذلك الوقت حميد عثمان.
قاد فرع إقليم كردستان للحزب الشيوعي آنذاك ثلاثة من قياديين يحملون مباديء وأفكارا قومية، ويسعون لتطويع المبادئ الشيوعية بما يتلاءم مع واقع كردستان، وهم الدكتور كمال فؤاد وصالح الحيدري وحميد عثمان و أثروا بشكل أو بآخر في همزة عبدالله، وفي عام 1957 بعد تأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني الموحد، وخاصة الجناح اليساري في الحزب والذين أسموا أنفسهم بالجناح التقدمي للحزبي الديمقراطي الكردي العراقي أي مجموعة نزاد وخسرو المنشقة عن الحزب الشيوعي، وعمت تلك الأفكار والمباديء الجديدة وسط أعضاء فرع كردستان للحزب الشيوعي، وهكذا حلوا أنفسهم في آب من عام 1957 وإنضموا الى البارتي.

* وما كان دورك أنت فيما حصل؟
– لم أكن في العراق بتلك الفترة، فحين صدر هذا القرار كنت في مهرجان الطلبة والشباب بموسكو ولم أحط خبرا بما حصل، وقد يكون الدكتور كمال فؤاد على علم بتفاصيل ماحدث. ولكن ما علمته فيما بعد هو أن الشخص الذي قام بدور فعال في الموضوع هو الأستاذ همزة عبدالله الذي كان عائدا للتو الى البارتي، وخاصة أن كلا من نزاد وخسرو كانت علاقتهم به جيدة. ويبدو أن الأستاذ ابراهيم أحمد الذي كان مقبولا كسكرتير للحزب من عموم الأعضاء، قد نصحهم بذلك وهو الذي أشرف على توحيد الحزب، وبذلك لم يكن لي أي دور في المسألة. وحين عدت في خضم تلك الأحداث وجدت الشيوعيين قد أصدروا كراسا مليئا بشتائم مقززة وإتهامات وأكاذيب ضد منشقي فرع كردستان. وعنون الكراس بـ”رد على المفاهيم التصفوية القومية البورجوازية” وكان مليئا بالشتائم والإتهامات الموجهة الى فكرة ضرورة وجود حزب خاص بالكرد، أو حتى فكرة إنضمام الشيوعيين الى البارتي، وعدوا ذلك إنشقاقا يخدم الإستعمار والشوفينية ويعادي الأمة العربية. ولذلك كان مستغربا أن تتحول العلاقة الميتنة التي كانت لنا مع الشيوعيين قبل سفري الى موسكو، الى الحضيض، وخاصة أن علاقتنا كانت ممتازة مع الحزب الشيوعي وكان سلام عادل يقضي معظم لياليه برفقتنا، ورغم أنني وهمزة عبدالله كنا مختفيين في بغداد بتلك الفترة لكن ذلك لم يمنعنا أن نتزاور ونوطد علاقتنا معهم..لقد حاولنا أن نقوم بجهود الوساطة، وكان سلام عادل في الحقيقة داعما كبيرا للمسار التقدمي للبارتي وعلاقته ممتازة مع الأستاذ ابراهيم أحمد، حتى انه هو من إقترح على جماعة أنصار السلام بتقليد الأستاذ أبراهيم أحمد جائزة حمامة السلام تقديرا لدوره في حركة السلام بالعراق. كما أن عزيز شريف وعبدالرحيم شريف كانا صديقين قديمين للبارتي داخل الحزب الشيوعي ولهما دور في سياسات الحزب، لذلك إستغربنا صدور ذلك الكراس بهذا القدر من العنف والتطرف. والأغرب من ذلك هو أن كاتب الكراس هو شخص يدعى شريف الشيخ الذي ظهرت لاحقا خيانته وركوعه أمام العدو وتقديمه إعترافات كاملة ضد رفاقه بالحزب الشيوعي وتمرده عليهم.
على كل حال وضعت مواقف الحزب الشيوعي في تلك الفترة عراقيل وعقبات كثيرة أمام تطور علاقة التعاون بين البارتي مع الأحزاب العربية الأخرى في ذلك الزمن، وخاصة أن الحزب الشيوعي كان مقربا من الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الإستقلال وحزب البعث العربي الإشتراكي، بالإضافة الى أن موقف حزب البعث لم يكن واضحا تجاه البارتي ولم يكن يعرف كيف يقيمه ويعترض على مشاركته في جبهة الإتحاد الوطني.وبسبب عدائه مع البارتي سلك الحزب الشيوعي نفس منهج البعث، فعارض إنضمام البارتي الى الجبهة وكان يسعى لعزله، ولهذا السبب لم تكن الجبهة عموما مستعدة لقبول أية شعارات قومية يرفعها البارتي حول الحكم الذاتي أو حق تقرير المصير.من جهته لم يكن البارتي شغوفا جدا للإنضمام الى الجبهة الوطنية، ولكنه دعا كامل الجادرجي الى ضرورة تثبيت الحكم الذاتي وحق تقرير المصير في وثائق الجبهة، ولأن البارتي كان في عداء مع الشيوعيين فلم يكن هناك من الناحية الذاتية أوالموضوعية أي معنى لإنضمام البارتي الى جبهة تجمع الشيوعيين بحزب الإستقلال والوطني الديمقراطي والبعث العربي الإشتراكي.

جبهة الإتحاد الوطني العراقي
* كيف خطرت فكرة تأسيس الجبهة لهذه الأحزاب، وما كانت أهميتها؟
– العدوان الثلاثي على مصر شكل الأساس الذي إنطلقت منه فكرة تأسيس جبهة الإتحاد الوطني العراقي. وأستطيع القول بأنه كان أيضا سنة إنطلاق ونضوج النضال الشعبي في العراق. فإثر الإعتداء الإنكليزي الفرنسي الإسرائيلي على مصر عم الغضب الشارع العراقي من أقصاه الى أقصاه، وكان للحكومة العراقية موقف متخاذل من العدوان. حتى ظهر لاحقا أن نوري السعيد كان له دور مخز في تأليب الإنكليز على عبدالناصر، ولذلك نشأت فكرة الكفاح المسلح. وكنا في كردستان قد تبنينا هذا الشعار منذ وقت طويل، لكن الشيوعيين و بتأثير المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي يتبنون شعار الإنتقال السلمي و يتصورون أن العراق يمكن أن ينتقل سلميا نحو الإشتراكية، وهذا إنعكس على تصرفاتهم ومواقفهم، ولكن ماحدث غير من تلك المواقف حتى أنهم لجؤوا بدورهم الى بعض أساليب الكفاح المسلح مثل تفجير القنابل وإطلاق الرصاص. ويبدو أن كل هذا الشعور القومي المتأجج كان بسبب تأثيرات راديو “صوت العرب” الذي كان يصدح من القاهرة ويدعو العراقيين الى النضال ضد الإمبريالية وحلف بغداد ويؤلبهم ضد نوري السعيد والرجعية العربية، والشيوعيون بالأساس شكلوا جبهة وطنية عراقية من دون الكرد عام 1957، ولم يكن في برنامجهم أية إشارة الى المسألة الكردية، ماعدا تأكيدهم على الأخوة العربية الكردية، وهذا مبدأ تجسد في الدستور العراقي المؤقت فيما بعد. وفي الحقيقة كانت هذه العبارة التي تم تثبيتها في الدستور قد ورد ذكره في برنامج المؤتمر الوطني العراقي الذي ضم كلا من حزب الإستقلال والحزب الوطني الديمقراطي والجبهة الشعبية وقدموها الى الحكومة العراقية. لقد بدأ الغليان القومي يفور سواء بين العرب أو الكرد. فالشعب الكردي أيضا بدأ يطالب بحق تقريرالمصير، أوعلى الأقل شيء زائد عن الحكم الذاتي، أو تحقيق الحكم الفدرالي، ولكن الجبهة الوطنية العراقية لم تلتفت كما يجب الى المسألة الكردية، وعليه فإن البارتي لم يكن متحمسا جدا للإنضمام الى الجبهة التي تألفت أساسا من أربعة أحزاب ثم إنضم إليها بعض الأعضاء الآخرين تحت إسم شباب أنصار السلام.كانت المهمة الأساسية للجبهة هي إصدار البيانات وحث الجماهير على النضال، وفي ذات الوقت كانت مجموعة من الضباط الأحرار تتحرك وتنشط داخل الجيش وتخطط للعمل الثوري والإنقلاب على الحكم الملكي وإنقاذ العراق من قيود الإمبريالية.
أما برنامج الجبهة فقد خلا تماما من التطرق الى الحقوق الكردية، ويشدد على المسألة الديمقراطية والدستور والحياة البرلمانية وحرية الأحزاب، حتى انه خلا أيضا من أي حديث عن إسقاط النظام، بل يكتفي بإسقاط الحكومة و إنتهاج سياسة الحياد الإيجابي و عودة العراق الى أحضان العرب و توحيد نضالهم القومي المشترك. وجدير بالذكر أن رئيس الحزب الوطني الديمقراطي الأستاذ كامل الجادرجي كان محبوسا في تلك الفترة، لأنه كان أثناء العدوان على مصر وجه هناك برقية موقعة بإسم لجنة الشعوب العربية للتنديد بالعدوان. وفي تلك الفترة نشر خبر في الصحف العربية مفاده أن العراق أثناء العدوان الإسرائيلي على مصر قد صدر نفطه الى إنكلترا عن طريق خط بغداد – يافا، لأن النفط المصدر عبر سوريا قد توقف بسبب قيام الضباط الأحرار بتفجير الخط الناقل للحيلولة دون وصول النفط العراقي الى الدول الغربية، وهذا أثر بشكل فاعل فى نتائج المعركة.

* كم طال العمر بالجبهة الوطنية العراقية؟
– إستمرت الجبهة حتى إنطلاق ثورة 14 تموز 1958 وتأسيس الحكومة الجديدة. وبعد الثورة تألف وفد من الحزب برئاسة الأستاذ ابراهيم أحمد وكنت عضوا فيه من أجل التفاوض مع الجبهة، وحققنا بعض النجاحات حيث ان جميع الأطراف أبدت موافقتها على إنضمامنا للجبهة وخصوصا البعثيون الذين كانوا الأكثر حماسا رغم أنهم والآخرين يعلمون جيدا من نحن وماذا نريد؟ وكان يقود البعثيين في تلك الفترة فؤاد الركابي الذي عين بعد الثورة وزيرا للإعمار، وإلتقيناه ووجدناه شخصا رقيقا وآراؤه تجاه المسألة الكردية إيجابية جدا، حتى ذكر لنا أنه قد زوج أخته بشخص كردي وأن علاقته مع الكرد جيدة جدا ويحبهم، وقال”ما أريد تحقيقه للعرب أريده أيضا للكرد. ثم عقدنا إجتماعا معهم في مبنى جريدة الجمهورية. وكان وفد البعثيين يتألف من فؤاد الركابي وعلي صالح السعدي والدكتور سعدون حمادي وعدد آخر من شباب البعث، ونجحنا أن نغير آراء معظمهم، وجدير بالذكر أنه في أيام الحكم الثاني للبعثيين زج صدام حسين بالركابي في السجن وبمخطط خبيث إغتاله داخل السجن عن طريق أحد أعوانه.

* وهل كانت لدى البعثيين أية توجهات حقيقية لحل المسألة الكردية؟
– كانت مواقفهم جيدة، حتى انهم أكدوا لنا تأييدهم لتثبيت حق الحكم الذاتي في الدستور العراقي الدائم، وفي حال إنضمام العراق الى الجمهورية العربية المتحدة فإنهم سيعملون لجعل كردستان إقليما رابعا في تلك الجمهورية. وفي الحقيقة فإن دعايات الحزب الشيوعي وكذلك مواقف اليساريين داخل حزبنا وخاصة بعد عودة الملا مصطفى البارزاني من الإتحاد السوفيتي أثر سلبا على علاقتنا مع القوميين العرب، وإلا كان بإمكاننا أن نقنع هؤلاء القوميين بأحقيتنا في التمتع بحقوقنا القومية وبأننا شعب يستحق ذلك، وأن نعمل على تغيير نظرتهم الشوفينية وموقفهم المعادي لنا وسعيهم للقضاء علينا.
وكانت الخطوة التي نجح فيها الإستاذ إبراهيم أحمد في الإنضمام الى جبهة الإتحاد الوطني، هي خطوة موفقة ولها تأثير في مواقف الجبهة. فمن جهة أتاحت لنا فرصة عقد علاقات جيدة مع حزب البعث العربي الإشتراكي في العراق وحزب الإستقلال، وعن طريقهم استطعنا تمتين العلاقة مع عبدالناصر، ولكن ذلك أثار غضب الشيوعيين، وكانوا يروجون لكذبة أننا في المكتب السياسي للحزب وتحت قيادة الأستاذ ابراهيم أحمد وأنا قد عقدنا إتفاقا مع البعثيين وحزب الإستقلال وعبدالسلام عارف من أجل ضم العراق الى الجمهورية العربية المتحدة مقابل أن ينال الكرد إستقلالهم أو تأسيس جمهوريتهم، أو على ألأقل ليكونوا إقليما رابعا في تلك الجمهورية.وأوصلوا هذا الخبر الى مسامع عبدالكريم قاسم الذي ثارت مخاوفه كثيرا، كما أبلغوا ذلك للملا مصطفى فيما بعد.
وفي الحقيقة فإن إعادة الملا مصطفى كانت تتطلب أن نتقرب من القوميين العرب، لأنه في ذلك الوقت كان عبدالسلام عارف وزيرا للداخلية وطاهر يحيى عين مديرا عاما للشرطة. وكان يحيى بالأصل كرديا وله علاقة جيدة مع الضباط الكرد وخصوصا مع كريم قرني، وتعرفنا عليه عن طريقه، وحين ذهبنا اليه طلبنا منه تهيئة جواز سفر للملا مصطفى لكي نسهل عليه العودة الى العراق. وكنا إلتقينا بعبدالكريم قاسم وطلبنا منه ذلك، لكننا كنا نخشى أن يعترض عبدالسلام على ذلك، لذا تحدثنا مع طاهر يحيى الذي ذهب الى عبدالسلام وأقنعه بالموافقة وهكذا كان.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة