المجمعي والأستاذ الجامعي إبراهيم بيومي مدكور

قراءة في مذكراته
شكيب كاظم

قد لا يعرف عامة القراء، الباحث الجامعي والمجمعي، والسياسي الوفدي الأستاذ الدكتور إبراهيم بيومي مدكور (1902-1995)، لكنه -لا ريب- معروف لدى الخاصة، إذ كان أستاذاً جامعياً، وعضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومن ثم تولى رئاسته عام 1974، خلفاً للدكتور طه حسين كما إن له بحوثه الجامعية في نشأة النحو العربي، ونظرية العامل فضلاً عن قوله بتأثر النحو العربي بالفكر الأرسطي، وكان رأيه هذا الذي أطلعت عليه وقرأتهُ منتصف عقد السبعين من القرن العشرين، هو الذي عرفني إليه، ومن ثم متابعة ما يُصْدر، كلما كان إلى ذلك سبيل، وما أرى أن رأيه ذاك صحيح لأن العرب في بدايات تقعيدهم لقواعد لغتهم، ما كان لهم اتصال بالآخر، وما سمحت لهم صحراؤهم الشاسعة، عقد لقاءات بالأمم الأخرى إلا قليلاً، كما إن الترجمة إلى العربية إنما تبلورت في وقت متأخر نسبياً، أيام الخليفة المأمون (198-218) وكانت عمليات التقعيد قد شارفت على نهاياتها، أو بالحري قد انتهت فضلاً عن تحقيقه، شاركه في ذلك محققون آخرون لكتاب (المُغني) للقاضي عبد الجبار، الذي يعد رأساً مهماً من رؤوس المعتزلة، ويجب ان ننص على اشتراكه بتحقيق (الفتوحات المكية) لمحيي الدين بن العربي، دفين دمشق الشام والمتصوف المعروف.
ولد إبراهيم بيومي مدكور، في منطقة الجيزة، القريبة من القاهرة عام 1902، وقد نشأ محباً للدرس والتعلم، وفي بيت سياسي وفدي، وقد ورث إبراهيم عن أبيه مؤازرته لفكر حزب الوفد وتوجهات زعيمه سعد زغلول السياسية، وضرورة نيل الاستقلال عن بريطانية، وفاز بعضوية مجلس الشيوخ وما كان سنهُ يؤهله ذلك، إذ يشترط في العضو أن يكون في الأربعين من العمر وصاعداً.
بعد أن حصل إبراهيم بيومي مدكور على شهادة الثانوية العامة فإنه يرسل للدراسة في السوربون الفرنسي، والتي يحدثنا عنها في كتابه السيري الممتع والمفيد( مع الأيام. شيء من الذكريات) ونشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2011، قائلاً (تابعت الدروس في السوربون حتى نهايته، وحصلت على الليسانس بعد عامين أو يزيد، وهم يأخذون بنظام الشهادات لا بنظام السنوات، ومتى أكتمل عدد منها حصل على درجة الليسانس، وبعد هذا أصبح لي الحق في أن أتقدم لشهادة الدكتوراه، وقد قضيت في الإعداد لها زمناً أطول مما قضيته للحصول على الليسانس، خصوصاً وقد قصدت الحصول على دكتوراه الدولة، بدلاً من الاكتفاء بدكتوراه الجامعة وتستلزم تقديم بحثين كاملين، اتجهت فيهما نحو الفكر الإسلامي فعالجت في الرسالة الكبرى (تاريخ منطق أرسطو في العالم العربي) ووقفت في الرسالة الصغرى على (الفارابي ومنزلته في المدرسة الفلسفية الإسلامية).
وقد وقفت عند نقطة مهمة يرويها الأستاذ إبراهيم بيومي مدكور حاول تطبيقها في الدرس الجامعي، عدُيد أساتذتنا الأفاضل، لكنهم اصطدموا بكسل بعض الطلبة، ورغبتهم بمواصلة ما تعارفوا عليه في الدرس الثانوي، والكتاب المدرسي الذي يرجع إليه ويمتحنون بمواده، إذ ما كانت توزع على طلبة السوربون كتب وملازم، بل كان الأساتذة يحثون الطلبة على القراءة العامة والاستعانة بمكتبة الكلية أو الجامعة لتحصيل المادة المطلوبة، إذ لا سبيل لبحث علمي دقيق من غير الوقوف على مراجعه المختلفة، كي ينمو عقل الطالب المعرفي والنقدي، وتَلَمسُّ السبيل نحو رأي شخصي، وإلا يكون ظلاً لغيره، وإذ كان ذلك عرفاً واجب التطبيق فإن أساتذتنا اخفقوا في حثنا على هذا الأمر، سوى الأستاذ الدكتور محسن جمال الدين -رحمه الله- الذي درسنا مبحث الأدب الأندلسي، فكان يحثنا على المكوث في المكتبة ولم يقدم لنا ملازم، بل كان يشير إلى مصادر ومراجع يجب الرجوع إليها، فضلاً عن أستاذنا بموضوع المؤسسات الثقافية العربية الإسلامية في مرحلة الماجستير بمعهد التاريخ العربي للدراسات العليا الأستاذ الدكتور شاكر محمود عبد المنعم الهيتي.

طه حسين ومجانية التعليم
وإذ أكمل متطلبات الدرس، فإنه يعود إلى بلده مصر، لينتظم في سلك التدريس بكلية آداب جامعة فؤاد الأول (القاهرة فيما بعد) وكان رئيسها الدكتور أحمد لطفي السيد الذي يلقبه المصريون بـ (أستاذ الجيل) والمصريون مولعون بإطلاق الصفات والنعوت، فضلاً عن عدد من زملائه الأساتذة: أحمد أمين، وعبد الوهاب عزام الذي سيتولى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، عند تأسيسها عام 1945 وأمين الخولي، زوج الباحثة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) وأحمد فؤاد الأهواني وأبو العلا عفيفي، ويوسف كرم، ومحمد توفيق الطويل، ومصطفى عبد الرازق، الذي يصفه بـ (النفس الزكية) التي كان يأنس لها الجميع، فضلاً عن الدكتور طه حسين الذي كان يحث على ضرورة أن يتعلم طلاب الآداب بعضاً من اللغات القديمة مثل اليونانية واللاتينية، وطه حسين هذا يوم استوزر للتربية كان صاحب مشروع مجانية التعليم، وإن يكون العلم مجاناً مثل الهواء والماء، إذ كان التعليم وقتذاك في مصر لقاء أجور ويرى أن لا بد للحياة الجامعية من تقاليد ثابتة، وقد أخذ طه حسين نفسه بذلك، مستهدياً بالجامعات الفرنسية، ودعا دعوة صادقة إلى استقلال الجامعة، وحرية اختيار هيئة التدريس على أصول جامعية سليمة، وحرية البحث الطليق الذي لا يخضع لرقابة أو توجيه (….) وقد بذل طه حسين في سبيل ذلك ما بذل، ولاقى ما لاقى من اضطهاد وإبعاد عن الحياة الجامعية..
لكنه يلمس ان مستوى طلاب الجامعات يهبط عاماً بعد عام، إذ أن المعول عليه لدى السلطة والكثير من الطلبة، الكم لا الكيف، العدد لا النوع والسياسة لا العلم والدرس.
في الكتاب المهم والمفيد هذا (مع الأيام. شيء من الذكريات) وزانته مقدمة ضافية كتبها الدكتور عاطف العراقي، أستاذ الفلسفة العربية بكلية آداب جامعة القاهرة، في هذا الكتاب، شذرات والتماعات وأفكار ورؤى للإصلاح والتوجيه، فالدكتور مدكور وإن اعتزل السياسة لكن ظلت آراؤه مطبوعة بفكره السياسي الوفدي ، ولاسيما عند حديثه عن الحياة الجامعية وما يعتورها من فتور وتراجع، فضلاً عن الحياة الثقافية واقفاً عند مجمع اللغة العربية القاهرة، الذي ترأسه عام 1974، وهو الذي كان عضواً فيه منذ عام 1946، خلفاً لرئيسه الدكتور طه حسين، بعد سنوات من المرض والغياب عن حضور جلساته، الذي ضربه مرض فقدان الذاكرة، وهو ما أفصح عنه الأديب الكويتي عبد الرزاق البصير -رحمه الله- في حديث إذاعي، المجمع الذي أنشئ عام 1932 مكوناً من عشرين عضواً، عشرة من المصريين وخمسة من العرب هم: العراقي الأب انستاس ماري الكرملي، والسوريان عبد القادر المغربي ومحمد كرد علي، وشيخ لبناني هو عيسى إسكندر المعلوف، ومن تونس حسن حسني عبد الوهاب، فضلاً عن خمسة من الأوروبيين هم الألمانيان ليتمان واوكست فيشر، والفرنسي لويس ماسنيون، والإنجليزي هاملتون جيب، والإيطالي كارلو الفونسو نللينو، وإنتهى في تسعينيات القرن العشرين بستين عضواً، منهم أربعون من مصر، وعشرة من العرب، وعشرة من الغرب، وظل صديقنا الدكتور يوسف عز الدين، عضو المجمع، مواظباً على حضور جلساته السنوية، حتى وفاته – رحمه الله-.
وكان من أعمال هذا المجمع الجليلة، إصدار (معجم الفاظ القرآن الكريم)، فضلاً عن (المعجم الوسيط) اقتنيت نسخة منه عام 1975، وعمل على إنجازه وإصداره كل من إبراهيم مصطفى (1888-1962)، ومحمد علي النجار( 1895-1965) وحامد عبد القادر (1895-1966) وأحمد حسن الزيات (1885- 1968) فضلا عن (المعجم الوجيز) وهو خاص بالطلبة والشداة، وما زال العمل مستمراً، ومنذ عقود في إنجاز المعجم الكبير، وقد صدر منه أكثر من جزء، وكان جزؤه الأول خاصاً بالهمزة وإذ طال على هذا المعجم الأمد فقد دفع ببعضهم للتساؤل، لا بل للتندر متى سيكتمل هذا المعجم؟ ويجيب الأستاذ إبراهيم بيومي مدكور أمين عام المجمع، إن مثل هذه الأعمال الجبارة، قد لا تظهر نتائجها وثمارها خلال جيل أو جيلين، المهم أن ينجز العمل على الوجه العلمي الأمثل لتستفيد منه الأجيال المقبلة، هذه المشاريع وغيرها، دفعت كاتباً هو سلامة موسى للاستهزاء به والنيل منه قائلاً الغربيون ينجزون وسائل الحضارة ويبتكرونها، والمجمعيون العرب، منهمكون بتعريب الفاظ هذه الوسائل، والمصطلحات الحضارية الإنسانية، وهو كلام ظاهره حق وفي جوفه الباطل، ترى أهل أتاك يا سلامة موسى حديث الموسوعات والانسكلوبيديات الأوروبية، والجهد الذي يستغرق عقوداً لإنجازها، والإضافة السنوية على متنها، وفي الذاكرة (الانسكلوبيديا البريطانية)؟

ظل وفدي الهوى
لقد جذبته عوالم السياسة، عن المجال الذي أراه خلق له، وهو عالم البحث والكتابة وتحقيق المخطوطات، ولو ابتعد عنها لقدم لنا خيراً وفيراً ولكن! إذ أمضى العمر تحت راية حزب الوفد -كما أشرت آنفاً- وقد أخذ الحزب اسمه تيمناً بالوفد الذي ترأسه سعد زغلول لمفاوضة البريطانيين نهاية الحرب العالمية الأولى، لغرض حصول مصر على استقلالها، ولأنه وفدي الهوى، فأمسى موضع سخط السراي أي القصر الملكي، الذي كان يضيّق عليه، وأضاع عليه عديد الفرص، منها رئاسته لصحيفة (الأهرام) العريقة بعد وفاة رئيس تحريرها أنطوان الجميل، ولأنه وفدي فقد ظل يرتاب بالعهد الجديد، وبالكثير من قراراته، ويراها أضاعت على مصر كثيراً من فرص التقدم والنماء، فهو يرى أن ثورة 52، كان هدفها التخلص من سلطان السراي، واستكمال استقلال مصر، ونجحت في التخلص من ذيول الاستعمار البريطاني، لكنها بليت بما ابتليت به قيادات سابقة، من خلافات داخلية وتطاحن على السلطة، وبلغ بهذه القيادات أن دخلت في حروب ما كان أغنانا عنها كحرب اليمن، وأخشى ما أخشاه أن يكون من بين حرب عام 67، هي ايضاً شيء من صرف الأذهان عن الخصومات بين القيادات السياسية الكبرى.
وقد يكون في قوله هذ شيء من الحقيقة، لكن ليست الحقيقة كلها، فالحقيقة ليست ملكاً لأحد وكل يأخذ منها بطرف، وبودي أن أنهي حديثي هذا، بخلة جميلة من خلال وأخلاق الكبار شأناً وعلماً وخلقاً، فها هو ذا مصطفى عبد الرازق يرشح إلى مشيخة الأزهر، وما ادراك ما أهمية هذا المنصب وتوق الشيوخ لتسنمه، والتي كانت وقفاً على هيئة كبار العلماء، وما كان مصطفى منهم، فتقرر إحالة هذه الفقرة إلى مجلس الشيوخ كي تعدل وتمهيد الطريق أمامه، وتمهيد الطريق أمامه نحو المشيخة، صديقه وزميله إبراهيم بيومي مدكور، الذي كان عضواً في مجلس الشيوخ برغم صغر سنه!! المبدئي الباحث عن الحق والحقيقة والرافض لفكرة التعديلات، لأنه يراها مساً بقدسية القوانين وإنها تنفذ لغاية خاصة، وليس لمصلحة عامة الناس، لم يقر التعديل المقترح، على الرغم من نيله موافقة وإقرار أكثرية أعضاء مجلس الشيوخ، وما غضب عبد الرازق، وما زعل، بل كان في اليوم ذاته الذي نوقشت فيه هذه الفقرة، مدعواً إلى جانب آخرين إلى مائدة غداء في دار عبد الرازق، الذي ما وقف عند هذه المسألة المهمة أو يعرض لها، وكأن لم يسمر بمكة سامر!.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة