فاطمة منصور ـ لبنان:
رغم صعوبة تعريف الشعر الا ان هناك من يصفه بأنه فن الحياة او انه كما يقول جبران خليل جبران (الشعر جبل من المتعة والألم والدهشة، ومثقال ذرة من اللغة)، اذ انه يستوعب الحياة بكل تناقضاتها، فرحها وحزنها متعتها وألمها، ولكن ليس بشكل مطلق وانما تعتمد هذه العملية على قدرة الشاعر ومهارته في وضع كل هذه المظاهر الحياتية تحت مرجل اللغة لصهرها، واستخلاص الشعر منها.
حيث تظهر مهارة الشاعر حبيب السامر في نصوص ديوانه الشعري (شهرزاد تخرج من عزلتها)، عندما يبني القول الشعري على استحضارات الفجيعة العراقية، مغمسة بحس شفيف وروح اخاذه في بناء خطابه، والتقنيات التي يستخدمها في بث تلك النصوص، كلوحات غنائية، تتصارع فيها انفعالات الشاعر وقدرته على تشكيل الافاق الحديثة في تكوين وبناء معمارية النص ولغته:
عيونهم سهام
لا يأبهون بالقادم من الوقت
شفاهُهم زرق
وفي أذانهم وقر
لا موسيقى تظهر روحهم
لا يحلمون بالماء والخضراء
مثل صفصافة مقبرة زائلة.
لذلك فقد ظهرت هذه الحكايات الشهرزادية بأشكال عدة ومواضيع مختلفة، ولكنها تشترك بجذر واحد، انها تمثل ذلك الموت غير المعلن الذي يطوق التاريخ العراقي، كون الشاعر احد شهود ذلك التاريخ، بعد ان عانى من حروب وفقدان واوجاع مرتبطة بحياته هو نفسه كعراقي، والمحيطين به من اصدقاء ومعارف، اذ كان اخ الشاعر احد تلك الاوجاع التي تمثلت في نص (غامضة نومتك الاخيرة) المهدى الى أخيه (ميثم في غيابه الابدي).
المغاربُ قاسية
تزيحُ أخر رشفةٍ من بياضٍ
في فنجان النهار الفارغ.
او نص اخر مهدى الى (روح القاص محمود عبد الوهاب) حيث الفقدان هنا يرتدي ثياب الاسئلة الوجودية التي تبحث عن سر الحياة والموت، ومدى ارتباطها بالإنسان الذي كان يعيش بيننا مشاركا لنا تلك الألآم والمواجع، قبل ان ينتقل الى الطرف الاخر، الذي لا رجعة منه:
هل انت حزينٌ بما يكفي
لترقد في نومتك الاخيرة
أم انك الاكثر سعادة منا الان.
يكشف الاهداء المرافق لهذين النصين حدود ذلك الفقد أو الموت الي يبني اسئلته، ويتركها بلا أجوبة بوجه هذا الموت، وكأن تأجيل الجواب هو تأجيل لذلك الموت، بينما النصوص الاخرى تحتاج الى بحث معمق داخلها لإيجاد الصلات التي تبنيها تلك الحكايات بينها وبين دلالات النصوص، يقول في نص (مدن تتلاشى):
المدن تتلاشى في الظلام
والرملُ يرسم ملامح المسافة
الريحُ مجنونة
الى اين وجهتنا..؟
الى أين….؟
يشير التلاشي هنا الى الضياع والفقدان في رمال الزمن المتحرك الذي يبتلع تلك الاجوبة في سؤال الشاعر المكرر (الى اين؟)، حيث تضيع المسافات ويضيع معها معنى الوجود على حواف نصوص السامر المغرقة رغم ذلك بالتفاؤل والامل في اكتشاف الحياة وسط كل ركام الحزن والموت، رغم كل اسئلته واجوبتها الغارقة بالتلاشي والفقدان :
أين الوجه الاخر؟
أين تلاشى في بعد المرآة؟
في نص (مرآة ووجود) ولكن رغم هذا الحزن والفقدان الذي يحاصر النصوص، الا انها مملوءة ايضا بحس شفيف وعاطفة انسانية مرهفة:
فأوت الى صدره
وهي تردد:
لا باب يسعُ احلامي
أنت باب بهجتي
مهما ضاق أتسع.
حيث تكون الحبيبة هنا رديفا للطرف الاخر من الحكاية، حكاية الحياة والحب والمشاعر الانسانية، واحلام الوجود في عالم مملوء بالجمال، والذي يقاوم ذلك الموت والفقدان رغم الصور المكفهرة التي تطوقها.
نصوص الشاعر العراقي حبيب السامر هي نصوص مكتنزة بالصور الشعرية التي تحتاج الى من يكتشف عبيرها بذائقة عالية وحاسة شم قوية، لينتشر هذا الجمال وتضوع شهرزاد بعد ان تخرج من عزلتها بالعطر والجمال.