سارة يركيس
تتسبّب واشنطن بضرر كبير عبر قطع التمويل عن برامج المصالحة الموجَّهة إلى الفلسطينيين.
في مطلع أيلول/سبتمبر، حظّرت الولايات المتحدة على الفلسطينيين من الوصول إلى آخر ما تبقّى لهم من المساعدات الأميركية، والمتمثّل في الصندوق الإسرائيلي-الفلسطيني لتمويل المصالحة بين الشعبين (P2P) الذي يُدار عن طريق مكتب إدارة وتخفيف حدّة النزاعات (CMM) التابع للوكالة الأميركية للتنمية الدولية.
وبرنامج المصالحة بين الشعوب أطلقه الكونغرس العام 2004 من أجل «دعم برامج وأنشطة المصالحة والتخفيف من حدّة النزاعات، التي من شأنها جمع شمل الأشخاص من شتى الخلفيات الإثنية أو الدينية أو السياسية في مناطق النزاعات الأهلية والحروب.
هذا البرنامج السنوي للهبات البالغة قيمته 26 مليون دولار أميركي هو برنامج عالمي، إنما في كل عام يطلب الكونغرس من الإدارة الأميركية إنفاق نحو عشرة ملايين دولار أميركي تحديداً على برامج المصالحة بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، ما يجعل الولايات المتحدة أكبر مموِّل لهذه الأنشطة. إشارة إلى أن الكونغرس يقدّم دعماً كبيراً لبرامج مكتب إدارة النزاعات، وقد صوّت المسؤولون عن توزيع مخصصات الموازنة على زيادة الحصة الإسرائيلية-الفلسطينية من المنح التي يُقدّمها مكتب إدارة النزاعات، بنسبة 20 في المئة (حتى 12 مليون دولار أميركي) للسنة المالية 2018.
لكن في خطوة تتعارض مع دعم الرئيس دونالد ترامب المعلَن لتسوية سلمية للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، أعلنت الإدارة الأميركية أنه لم يعد ممكناً تخصيص أموال مكتب إدارة النزاعات لتمويل أنشطة عابرة للحدود، مع العلم بأن هذه الأنشطة تستحوذ تقليدياً على ثلثَي برامج المكتب في المساحة الإسرائيلية-الفلسطينية، مع تخصيص الثلث المتبقّي لبرامج مجتمعية مشتركة داخل إسرائيل. وعلى الرغم من أن البرامج الإسرائيلية الداخلية مهمّة، إلا أنها لا تُمثّل سوى جزء صغير من عمل المجتمع المدني الذي يُعد أساسياً لردم الهوة الجغرافية والنفسية الشاسعة بين الإسرائيليين والفلسطينيين داخل الحدود الفاصلة بين الضفة الغربية وإسرائيل وعبرها، وهو أمرٌ ضروري لإرساء سلام دائم.
في الأشهر الأخيرة، شنّت إدارة ترامب سلسلة من الأعمال الانتقامية ضد السلطة والشعب الفلسطينيين، بدءاً من إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن مروراً بقطع التمويل الأميركي عن وكالة الأمم المتحدة لغوث، وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، التي تُعنى باللاجئين الفلسطينيين، وصولاً إلى وقف الدعم لشبكة المستشفيات في القدس الشرقية. غير أن إلغاء التمويل لبرامج المصالحة بين الشعوب العابرة للحدود قد يكون من الأكثر إلحاقاً بالضرر لآفاق السلام، علماً بأنه من أكثر الإجراءات المماثلة التي يجري التعتيم عليها.
فلماذا تُعد هذه البرامج مهمة؟
أولاً، بإمكان مجموعات المجتمع المدني أن تحقق أموراً تعجز عنها الحكومات أو لن تبادر إلى القيام بها. وإذا كانت إدارة ترامب جادّة بشأن رغبتها في جعل التوصل إلى اتفاق سلام في الشرق الأوسط حجر زاوية في إرثها، يجدر بها أن تتعلّم الدروس المستمدّة من اتفاقات أوسلو. لقد مُنيت هذه الاتفاقات بإخفاق جزئي لأن الجمهورَين الإسرائيلي والفلسطيني لم يكونا مستعدَّين للسلام. ويحاول برنامج مكتب إدارة النزاعات التخفيف من وطأة هذه المشكلة، عبر العمل على بناء شروط إيجابية للسلام على المستوى المجتمعي، وذلك بغض النظر عن وضع المفاوضات.
علاوةً على ذلك، لا يتمتع المسؤولون الحكوميون بالإمكانات، سواءً القانونية أو اللوجستية، للقيام بالعمل الخلاّق والإبداعي على مستوى القاعدة الشعبية والذي يُعد أساسياً لإحداث تغيير حقيقي على الأرض وتوليد الظروف المؤاتية من أجل التوصل إلى تسوية دائمة للنزاع. لهذا، ينبغي على إدارة ترامب أن تُبدي دعماً حماسياً للجهات التي تحصل على تمويل من مكتب إدارة النزاعات، ولأمثالهم ممن يقومون بالعمل المضني في سبيل بناء التسامح والثقة بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، بدلاً من تعطيل جهودهم.
ثانياً، يُبدي الشباب الذين يُشكّلون جزءاً كبيراً من المستفيدين من منح مكتب إدارة النزاعات، استعداداً للمجازفة لا يُظهره سواهم. وقد كنتُ شاهِدة على ذلك مرات كثيرة، عندما كنت أعمل في مكتب الشؤون الإسرائيلية والفلسطينية التابع لوزارة الخارجية الأميركية.
مثلاً، في خضم حرب غزة في العام 2014، عندما كانت التشنجات بين الإسرائيليين والفلسطينيين في أوجها، التقيتُ الأب جوش توماس، مدير منظمة «أطفال من أجل السلام» (Kids4Peace)، التي تستفيد من المنح التي يُقدّمها مكتب إدارة النزاعات، والتي تُشرِك شباباً يهوداً ومسيحيين ومسلمين وذويهم في القدس في برامج للتبادل بين الأديان على مدار العام. وقد فوجئت عندما أخبرني توماس أنه على الرغم من الحرب الدائرة آنذاك، رفض المشاركون الصغار التوقّف عن اللقاء. وفي حين أن التباعد كان يزداد بين عدد كبير من الإسرائيليين والفلسطينيين بدافع الغضب والكراهية، وهو أمرٌ مفهوم، بذلت برامج المصالحة بين الشعوب العابرة للحدود مجهوداً مضاعَفاً لبناء ثقافة من التسامح والمصالحة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وبين المسلمين والمسيحيين واليهود.
ثالثاً، لم يتخلَّ الأشخاص في طرفَي النزاع عن الأمل. ففي حين أن النسبة المئوية للإسرائيليين والفلسطينيين الذين يدعمون حل الدولتَين تراجعت قليلاً في الأعوام القليلة الماضية، إلا أن عدد المتقدّمين بطلبات لمكتب إدارة النزاعات والمستفيدين منه، ونطاقهم يستمران في النمو، وقد تمكّنت بعض المنظمات العابرة للحدود من تحقيق زيادة كبيرة جداً في حجمها وانتشارها بفضل التمويل من المكتب. وغالباً ما ينسى المفاوِضون أنه في حين أن القادة هم مَن يخطّون ربما معاهدات السلام، لا يُصنَع السلام على طاولة المفاوضات، بل في الشارع.
السبب المعلَن الذي ذكرته إدارة ترامب لوقف شتى أشكال الدعم للفلسطينيين، أن خسارة التمويل ستُرغم السلطة الفلسطينية على الجلوس صاغرةً إلى طاولة المفاوضات. لكن غالب الظن أن هذه المقاربة القائمة على استعمال العصا الثقيلة سيكون مصيرها الفشل. يجب أن تكون مجموعات المجتمع المدني العابرة للحدود الحليفة الأقوى للإدارة الأميركية، لا عدوّتها. وتوجّه الولايات المتحدة، عبر تخلّيها عن استثمارها الصغير في الشعبَين الإسرائيلي والفلسطيني، إشارة مدوّية جداً بأن «عملية السلام» التي تروّج لها زائفة.
نظراً إلى موقف الإدارة الأميركية المؤذي من كل ما هو فلسطيني، من غير المرجّح أن تُبدّل موقفها من برامج المصالحة بين الشعوب العابِرة للحدود في أي وقت قريب. لكن ما يُثير القلق أكثر، الخشية من أن يتجاوب الكونغرس مع إعلان الإدارة الأميركية عبر إلغاء كامل الحصّة الإسرائيلية-الفلسطينية في البرنامج. في حين أن حظر المنَح للفلسطينيين قد يكون «مناقضاً للتقليد المتّبع في التمويل ولنيّة الكونغرس»، وعلى وفق ما قال أحد كبار موظّفي مجلس الشيوخ المعنيين بالبرنامج، فإن الإبقاء على دفق التمويل مفتوحاً للبرامج الاجتماعية المشتركة، يُعزّز إلى حد كبير احتمالات إضافة البرامج العابرة للحدود من جديد في المستقبل، عندما تتغيّر الإدارة الأميركية (أو يتبدّل موقفها).
لكن في حال قرّر الكونغرس إلغاء الحصة الإسرائيلية-الفلسطينية في التمويل الذي يُقدّمه مكتب إدارة النزاعات، فسوف يتسبّب بالقدر نفسه من الأذى الذي ألحقته الإدارة الأميركية بالمنظمات والأشخاص الشجعان الذين يواظبون على العمل يومياً من أجل السلام.
مركز كارنيغي للشرق الاوسط