متابعة الصباح الجديد :
في بداية تاريخها درس الأطباء النفسيون السينما ليعرفوا كيف تستطيع التأثير في الناس، والسينما تُشبه كثيرًا علم النفس، فقد ظهر علم النفس المعملي، والتحليل النفسي الإكلينيكي في اللحظة التاريخية ذاتها التي ظهرت فيها السينما بالقرن التاسع عشر، كما يَذكر كتاب «السينما وعلم النفس علاقة لا تنتهي»، للمعالج النفسي سكيب داين يونج.
ويحكي الكتاب واقعة تعود إلى عام 1981، عندما شاهد أحد المتفرجين، ويُدعي جون هينكلي الابن، فيلم «سائق التاكسي» 1976، للمخرج مارتن سكورسيزي، نحو 15 مرة في إحدى دور العرض القديمة، وقد أوحى له الفيلم باغتيال الرئيس الأميريكي حينها، رونالد ريجان، لكي يلفت اهتمام الممثلة جودي فوستر لهوسه بها عاطفيًا.
فيلم سائق التاكسي
باءت محاولة الاغتيال بالفشل، وشُخصّت حالة هينكلي بـ«الفصام الارتيابي»، وأثارت الواقعة جدلًا كبيرًا عن دوافع الجنون، ودور وسائل الإعلام بالمجتمع. وبحسب يونج، فإنه وبعد 30 عامًا ما زال النقاد وأساتذة الجامعة يستشهدون بفيلم «سائق التاكسي» للتدليل على تشوه الحقيقة في الصورة التي تقدّمها وسائل الإعلام.
السينما تشبه كثيرًا علم النفس، لأنها تبحث في دوافع الإنسان واعتقاداته وشعوره، يقول الكاتب سكيب دايب يونج في كتابه «السينما وعلم النفس»: «عندما يَطرُق سمعك مصطلح الاضطراب النفسي، فماذا يتبادر إلى ذهنك؟ قد تفكر في صديق خاض صراعًا مع القلق، أو لعلك عملت في مستشفى كان بعض مرضاه يُعانون من الاكتئاب. بيد أني لن أراهن على مثل هذه النوعية من الاستجابة. فأول ما سيقفز إلى ذهنك سيكون على الأرجح صورة أنتوني بيركينز في دور نورمان بيتس في فيلم «سايكو» بعينيه الداكنتين اللتين تتحركان بعصبيّة جيئًة وذهابًا بسرعة شديدة».
ويضيف: «أو لعلك تستحضر شخصية ميلفين يودال التي أداها جاك نيكلسون في فيلم «أفضل ما يمكن الحصول عليه» وهو ينتقي قطعة من الصابون مغلّفة بطريقة خاصة، ويغسل يديه بعناية شديدة، ثم يُلقي بالصابونة نفسها في سلة المهملات، أو ربما يتراءى لك راسل كرو في دور عالم الرياضيات جون ناش في فيلم «عقل جميل» وهو يجهش بالبكاء على أرضيّة حمَّامه بعد أن كاد يُغرق طفله حديث الولادة».
ما تفعله بنا السينما
السينما وسط قوي وفريد وطريقة مهمة لتغيير طريقة تفكيرنا، وتؤثر على حياتنا، هذا ما أكدته دراسة أجرتها جامعة «كامبريدج» على ردود أفعال الناس نحو فيلمين، وأفادت بأن السينما تؤثر على توجهات الجمهور نحو الحكومة، وعلى أفكارهم، ومنها فكرتهم عن الاضطرابات النفسية، والوصم الاجتماعي المصاحب لها دائمًا، فالسينما تؤثر علينا أكثر من الكتب والجرائد مجتمعة.
وكما تستطيع السينما زيادة الوعي بالمرض النفسي، وجعلنا نتماهى مع المريض وندرك معاناته، فهي تستطيع أيضًا ترسيخ الوصم والعزل الاجتماعي للمريض النفسي، ووضع صورة نمطيّة ومشوهة للمريض النفسي، وتطبيع العنف ضده، وشيطنته كأنه قاتل متسلسل، وجعل الأمر سيئًا جدًا، حدث ويحدث ذلك في السينما المصرية والغربية بدرجات متفاوتة، لكن من ينقل صورة المريض النفسي الحقيقية؟
يجيب عن هذا السؤال كتاب «السينما وعلم النفس» بإفادته: «إن تمثيلات الأشخاص المصابين بأمراض نفسية مقلقة لأن الاستطلاعات قد أظهرت أن الجمهور يستقي معظم معلوماته عن المرض النفسي من الإعلام، فالسينما ووسائل الإعلام روّجت لرؤية مفادها أن المرضى النفسيين موضوع للسخرية، ومصدر للعنف، ومختلفون جذريًا عن غيرهم من الناس».
التجسيد السينمائي للجنون
إذا رفضت أخذ الدواء عن طريق الفم، فنحن نمتلك طرقًا أخرى لجعلك تأخذ الدواء إحدى الممرضات لجاك نيكلسون المريض العقلي في فيلم «One Flew Over the Cuckoo’s Nest» تعد صورة المعالج النفسي ذاته صورة نمطية، ونرجع لكتاب «السينما وعلم النفس» الذي يقول: «عندما تسمع مصطلح عالِم نفس، ما أول ما يخطُر في بالك على الفور؟ لعلّك تتذكر استشاريًا قدّم لك العون خلال فترة عصيبة من حياتك، أو أستاذًا درَّس لك علم النفس في المرحلة الجامعية. مرة أخرى. تلك تداعيات محتملة، لكنّك على الأرجح ستُفكّر في الطبيب النفسي المُتبجّح الذي ظهر في نهاية فيلم «سايكو» ليشرح مرة واحدة وعلى نحو حاسم، ما حدث بالفعل في فندق بيتس».
تحليلات نفسية
ويقدّم كتاب «السينما والتحليل النفسي» تحليًلا تاريخيًا للتجسيدات السنيمائية لاختصاصيّ الصحة النفسية حيث يتم تسليط الضوء على الطريقة التي تغيرت بها المواقف والاتجاهات عبر الزمن، ففي السنوات الأولى من عمر السينما وحتى الحرب العالمية الثانية كان تجسيد الأطبّاء النفسيين يجري بطريقة غير واقعية على نحوٍ سافِر، فكثيرًا ما كانوا يُصوروا على أنهم مشعوذون. كما في فيلم «bringing up baby».
في الأربعينيات والخمسينيات أصبحت الأفلام أكثر جدية في تناول التحليل النفسي وبلغت أوجها في الستينات مثل فيلم«three faces of Eve » و«Freud» ولكن في السبعينات عادت الشعوذة للظهور كما في فيلم «One Flew Over the Cuckoo’s Nest» الذي يدور في مصحة للأمراض العقلية؛ إذ يتمرد جاك نيكلسون ويهرب هو وبقية المرضى الذين يعانون في المستشفى من تسلط الإدارة والضرب والعنف والإهانة.
تجربة السينما المصرية
مع الأمراض النفسية
في السينما المصريّة أيضًا بدت صورة المريض النفسي مشوهة، بدايًة من «إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين»، وفيلم «مطاردة غرامية» لفؤاد المهندس، وعبد المنعم مدبولي؛ إذ جرى تقديم المريض بصورة هزلية ساخرة.
استهوى صناع السينما كثيرًا مرض اضطراب الهوية التفارقي «dissociative identity disorder» برغم ندرته، مثل فيلم «بئر الحرمان» قصة إحسان عبد القدوس، وإخراج كمال الشيخ، وبطولة سعاد حسني، التي كانت تلعب شخصيتين «ناهد وميرفت»، ناهد في الصباح، تعاني من صداع مزمن وعدم القدرة على تذكر وتفسير بعض الأحداث، وفي الليل تتلبسها شخصية ميرفت أمها المكبوتة والمحرومة جنسيًا، فتخرج بفستان أحمر عار لاصطياد الرجال. الشخصية نفسها الشهوانية التي تحدث عنها يونج.