حسين حجازي
اتخذتُ هنا منذ سبع سنوات، أي منذ اندلاع الأزمة السورية، موقفاً من هذه الأزمة بدا في ذلك الحين معاكساً لاتجاه كاسح ومهيمن، كان يرى وتحت تأثير إعلامي هائل لقناة الجزيرة ان ما يجري هو ثورة حقيقية، تمثل امتداداً لما سمي بالربيع العربي، كموجة ضاربة وغير مسبوقة من الثورات التي هزت العالم العربي من تونس الى مصر وليبيا، وها هي أخيرا تضرب في سورية ضد حكم آل الأسد.
وباستثناء قلة قليلة من الكتاب العرب كان على رأسهم الراحل الكبير محمد حسنين هيكل، فقد تشككتُ شخصياً بجدوى، بل ومصداقية ما يسمى بالثورة السورية وأهدافها، ورأيت على النقيض من هذا التحليل السائد بقوة بدت لا تقاوم في سلسلة مقالات متواصلة، ان ما يحدث ليس سوى لعبة امم قذرة، تم تدبيرها في ليل حالك السواد بين أطراف إقليمية وأخرى دولية اتفقت على قتل الدولة السورية، التي كانت تأكل مما تزرع، وتلبس مما تصنع وتنتج، وليس عليها دولار واحد دين.
وانه بغض النظر عن أي اختلاف سياسي مع الاسد الأب الذي ورث الحكم لابنه او عن خصومتنا معه في الماضي، فإن حكم الاب والابن لسورية تميز بالنظافة السياسية تجاه الصراع مع اسرائيل. وان المسألة بهذا المعنى كانت تتجاوز العدوى السيكولوجية لموجة ما يسمى الربيع العربي، وان وراء الاكمة ما وراءها.
ولعل ما وراء الاكمة لم يكن واضحاً للكثيرين في غمرة هذا الضجيج المرعب والمخيف الذي مارسته جوقة هائلة من وسائل الاعلام وعلى رأسها قناة الجزيرة، ان سورية تحت حكم آل الاسد كانت على الاجندة بعد ضرب العراق عام 2003. وان القوى التي خاصمت عبد الناصر قبل زمن طويل هي الائتلاف والتحالف نفسه الذي اطاح بعد ذلك بصدام حسين، وسوف نلاحظ انه الائتلاف والتحالف نفسه الذي قرر العام 2011 ليس اسقاط حكم آل الأسد، وانما قتل الدولة السورية واعادة تفكيكها، ليتجه بعد ذلك الى تفكيك تركيا واعادة تقسيمها، وكانت هذه هي اللعبة.
واذ يبدو الآن ان اللعبة توشك على نهايتها، فان توازن المنتصرين هو النتيجة الحاسمة التي انتهت اليها هذه المحاولة الفاشلة، للقضاء على النواة الصلبة لفكرة سورية موطن ومركز الجغرافيا الطبيعية لمهد وإشعاع القومية العربية عبر التاريخ الحديث.
وكما بات واضحاً فان هذا التوازن الجديد والذي ينظر اليه اليوم على انه المتغير الحاسم في الشرق الأوسط او الوضع الإقليمي، هم سورية نفسها تحت حكم نظام الأسد الابن، وروسيا وايران وتركيا التي استطاعت الطفو فوق الازمة والاحتفاظ بدور أساس في رسم مفاعيل الصراع الإقليمي والعالمي في مرحلة ما بعد نهاية هذه الازمة.
وأخيراً حزب الله اللبناني الذي اكتسب خبرة وقوة بعد هذه الحرب الى حد اعتبار خبراء ومسؤولين عسكريين اميركيين في البنتاغون ان إسرائيل قد لا يمكنها الصمود امام حزب الله في أي حرب مقبلة تشن بين الطرفين.
وحتى في أسوأ التوقعات او السيناريوهات حينما كانت تجتمع دورياً المؤتمرات الحاشدة، التي تقارب المائة دولة ممن كانوا يسمون أنفسهم أصدقاء سورية، فانه اخيرا لم يتوقع او يخطر ببالهم هذه النتيجة. اذا كانت روسيا في عهد قيصرها الجديد فلاديمير بوتين هو الذي سينجح فيما عجز عنه أسلافه القياصرة، بل وحتى الاتحاد السوفياتي بعظمته في ذروة الحرب الباردة، بامتلاك مفتاح التوازن العالمي انطلاقاً من سورية التي قالت عنها ذات مرة الإمبراطورة كاترين انها تمثل مفتاح بيتها، أي مفتاح قوة روسيا في العالم.
في هذا التوازن الدولي الجديد سوف يصار الى اشراك فرنسا والمانيا اللتين تقودان الاتحاد الاوروبي، في عملية إعادة إعمار سورية والترتيبات السياسية لتسوية الأزمة السورية، ليس لحاجة روسيا الى الأوروبيين كغطاء دولاني جماعي في مواجهة الولايات المتحدة، وانما لاستبعاد وعزل الأخيرة وممارسة الضغوط عليها لإخراجها من شرق سورية بوصفها قوة احتلال. وهذه المبادرة تعد ذكاء من جانب الرئيس بوتين في إطلاق هذه الرباعية متعددة الأطراف، التي تضم الى جانب روسيا، تركيا وألمانيا وفرنسا. من شأنها التأكيد على العمل الجماعي في حل الازمات الدولية، وهي النظرية الذي ما برح ترامب يعمل ضدها ويحاول تقويضها.
وهيا اذاً نستمع الى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافرورف في خطابه امام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام، حيث يوجه نقداً حاداً للولايات المتحدة التي اتهمها بتقويض وتفكيك حل الدولتين، وانه لا مجال بعد الآن لاستفراد أميركا بالوساطة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فهل هذا التدخل الروسي الجديد بالاقتراب على هذا النحو الذي يعيد التذكير بموقف الاتحاد السوفياتي التقليدي والقديم في الإصرار على عقد المؤتمر الدولي لحل الصراع كإطار وحيد؟ هو النتيجة المباشرة او اولى تداعيات الاقتراب الروسي الاستراتيجي والعسكري في الجغرافية، اذا كانت فلسطين تقع جنوب سورية.
لكن ضربة الجزاء شبه القاضية، تعبيراً عن هذا التوازن الحاسم، تتمثل بالخطوة غير المسبوقة التي اتخذتها روسيا بعد حادثة اسقاط طائرتها اليوشن، بتزويد الجيش العربي السوري بالدفاعات الجوية المتطورة من منظومة اس300، ما يعني اغلاق المجال الجوي السوري امام سلاح الطيران الاسرائيلي، وهو الاجراء الذي رأت فيه كلٌ من واشنطن واسرائيل انه يمثل تصعيداً خطيراً من جانب روسيا.
وان تعقيب روسيا على الضربة الصاروخية التي وجهتها ايران الى قواعد داعش في شرق سورية باستعمال صواريخ باليستية من صنعها، يمكن النظر اليه على انه موافقة او ضوء اخضر لايران في المستقبل للرد على اسرائيل، وان هذا الموقف تم قراءته في اسرائيل والادارة الاميركية في هذا السياق، أي انه موافقة واضحة على الرسائل التي حاولت توجيهها ايران من هذه الضربة.
والواقع ان المفارقة قد تكون عند هذا المفترق قرب نهاية اللعبة او الازمة، انه عند بدايتها كنا نحن الفلسطينيين اكبر الخاسرين بعد الشعب السوري نفسه. لكن قرب نهايتها فان اسرائيل اولاً وحليفها دونالد ترامب ثانيا هما أكبر الخاسرين.
ولذلك في خطوة ذكية تقرأ هذا المتغير سريعاً، بادر الرئيس ابو مازن الى ارسال مبعوث خاص الى دمشق لتسليم رسالة شخصية الى الرئيس السوري بشار الأسد.
واعلن الرئيس تقديم الدعم المالي الفوري لإعادة إعمار مخيم اليرموك اكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية المضيفة، ودلالة هذه الرسالة واضحة كرد قوي على محاولة إدارة ترامب شطب قضية اللاجئين من أجندة الصراع وحل القضية الفلسطينية. وبالمجمل فان هذه المبادرة تجاه سورية هي انعكاس لشعور الفلسطينيين بأنهم هم ايضا رابحون بانتصار الدولة السورية على محاولة قتلها وتفكيكها طائفياً. وان فلسطين هي ضمن قائمة المنتصرين اذا كان من شأن عودة سورية وهزيمة إسرائيل اكبر المستفيدين طوال السنوات السبع الماضية من محاولة تحطيمها، تحدد او ترسم خطوطاً جديدة لقواعد اللعب بعد الآن في هذا الشرق المتوسط.
خطوط تؤشر لنهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة. لعل اهم الأوراق التي سقطت فيها هي أسطورة او عقيدة الهيمنة الأميركية المتفردة، كما أسطورة الذراع الإسرائيلية الطويلة دون كابح لهذه الذراع عبر هذا الفضاء العربي المستباح، الذي لم يعد مجالا حراً أمام إسرائيل.
ينشر بالاتفاق مع جريدة الأيام الفلسطينية