قراءة في رواية ( حمّام اليهودي ) للروائي علاء مشذوب
عبد السادة البصري
( مَنْ يؤرخ للآخر ؟ المكان هو الذي يؤرخ للإنسان ، أم الإنسان هو مَنْ يؤرخ للمكان ) ص219
تساؤل يدور في مخيلة كل واحد منّا ساعة دخوله مكاناً لأول مرّة ، وبعد اكتشافه لكل دقائق وزوايا المكان من خلال ناسه وما فيه من آثار وأثاث وكائنات أخرى ، ولحظات تحوّله عبر متغيرات الزمن يكون قد وصل إلى جواب شافٍ لتساؤله طبعا !!
المكان بناسه وما يعيش فيه إضافة إلى ما فيه من جمادات وما تطرأ عليه من تغيرات ،، هذه بديهية يعرفها الجميع ، لكن هناك من يغفل عنها ، وآخرون لن تمر في مخيلتهم أبداً لعدم اهتمامهم بها !!
وكما للمكان ناسه ، للناس صفاتهم أيضا ، هناك آراء وحكايات ومعتقدات وسبل عيش لابد أن يعرفها كل من يريد معرفة المكان ذاته ، وان يعيشها لحظة بلحظة !!
هذا ما عمل عليه الروائي ( علاء مشذوب ) حينما أخذنا معه برحلة امتدت لسنوات من عمر مدينة فتية يقطنها الآلاف من البشر المختلفين بكل شيء ( القومية ، اللغة ، الدين ، العمل ، السكن ، طريقة العيش ،، وغيرها ) وذلك من خلال اقتفائه أثر رجل يهودي جاء إليها مهاجراً ــ يعقوب شكر الله ــ وحكاية هجرته من بغداد إلى كربلاء ــ وهنا يجعلنا المؤلف أمام خيط سنكتشف بعد ذلك انه يؤرخ لبداية تكوين مدينة كربلاء الحديثة !!
رجل يهودي يهاجر من مدينة بغداد ليبتعد عن الهموم والمشاكل التي بدأت تظهر على السطح لإجبار اليهود على الهجرة إلى فلسطين بعد احتلال العراق وإعطاء ( بلفور ــ وزير خارجية بريطانيا ) وعده لليهود أن يكون وطنهم القومي ( فلسطين )، وتأكيد هذا الرجل على أهمية بقائه في العراق لأنه موطن الآباء والأجداد كما يقول دائماً ،، حيث أخذ ( يعقوب شكر الله بسرد حكايته التي كانت عنواناً جانبياً للرواية ــ حكاية رجل اسمه يعقوب شكر الله ــ ص5 )،، من هذا العنوان نعرف أن الروائي أعطى مهمة البوح لبطله ، بمعنى وضع أمامنا صورة ( الراوي العليم ) كي يأخذ بزمام الأمور شيئا فشيئا ، لكنه منحنا مفتاح روايته لنكون على بينة بأنه يؤرخ حكاية مدينة ، من خلال ما سيرد فيها من أماكن حديثة النشأة ــ وقد أوقع نفسه في خطأ الإفصاح عن مكنون روايته ، أو يريد أن يقول لنا بأنها حقيقية من خلال أرخنة الأماكن والأحداث ــ :ــ
( هذه الرواية تحكي قصة اليهودي يعقوب شكر الله دانيال وعائلته، وهو الذي فضّل الهجرة إلى متصرفية كربلاء بدل إسرائيل أو أية دولة أوربية ، بدأت أحداث الحكاية في نهاية عام 1918 وانتهت بعد أكثر من عقدين !!) ص9 .
من هذا المدخل نستشف انه يريد أن يناقش مسألة الأقليات الدينية في العراق ، وتحديداً قضية تهجير اليهود في أوائل القرن الماضي ( أسبابها ، وأحداثها ، ومالها وما عليها ) إضافة إلى تأكيده على أن اليهود جزء لا يتجزأ من تكوين الشعب العراقي من خلال مكابداتهم ومعاناتهم ورفض بعضهم الهجرة خارج العراق!!
بعد إيضاحه هذا يبدأ بتقسيم حكاية يعقوب ( الرواية ) إلى ثلاثة أقسام لكل قسم أبواب نلجها كي نعرف ما جرى ويجري عليه ، إضافة لما يتغير في المكان بناءً وعمراناً وأناساً ،، والمكان هنا ( كربلاء ) وهناك ( بغداد ) حيث رحلة بطل روايتنا هذه وتقلبه بين هذا وذاك ،، في القسم الأول يبدأ بالولوج إلى المدينة ومعرفة زواياها شيئا فشيئا ابتداءً من ( داخل كربلاء بين الأقمشة والصاغة ثم العودة الى بغداد ــ الشورجة واليهود ) ليعود إلى كربلاء ( طقوس محرم وصفر ) والاستقرار النهائي عند ( شراء البيت ) وقبل هذه الأبواب كان هناك باب رئيسي يفتتح به الرواية ــ الحكاية ( أسباب الهجرة ) والتي يوجزها بــ :ــ
( تذكرت تقريب البريطانيين لليهود لأنهم من ملتهم ) ص11
( بل إن إطلاق وعد بلفور السيئ الصيت جعل الشعور القومي لدى العراقيين يتنامى كما أشاع ذلك بعض اليهود بين أبناء اليهود ) ص11
( هناك سبب اقتصادي إضافة إلى الأسباب السياسية والنفسية التي أدت إلى هجرتي إلى متصرفية كربلاء بدلا عن الهجرة إلى فلسطين ) ص11 .
في هذه الصفحة والتي تليها يؤكد الراوي العليم ( يعقوب ) انتماءه الحقيقي للعراق قلبا وقالبا دون أي انتماءات أخرى ، وهذا ما اشتغل عليه المؤلف من خلال سعيه المستمر وراء الأحداث التي جرت وتوثيقها ، حيث يؤكد أن هناك مؤامرة حيكت لتهجير اليهود قسراً إلى فلسطين اشتركت فيها العصابات الصهيونية مع بعض القوميين العرب والتي أدت إلى خلو البلد من اليهود إحدى أهم طوائفه الأصلية التي استوطنته منذ آلاف السنين ــ هنا تظهر جرأة المؤلف في طرحه الواقعي للإحداث ، والتي اشتغل عليها ــ اقصد الجرأة ــ اغلب الروائيين العراقيين بعد أن رفعت يد الرقيب الثقيلة الوطأة عن كتاباتهم ، حيث يقول الروائي ( وارد بدر السالم ) في تقديمه للطبعة الثانية :ــ
( تنطلق رواية حمّام اليهودي من أرضية الأقليات الدينية في العراق التي توجهت إليها معظم روايات ما بعد 2003 ) ص315
بعد ذلك يأخذ بالدخول في خضمّ الحكاية واستقرار يعقوب نفسيا ومكانيا عبر إنشائه للحمام وآلية الاشتغال عليه مكانيا وما أثر في سيرته اثر عزوف البعض عن الاغتسال فيه ، ثم فتحه لدكان الصياغة ( عمله الأساس ) والتقائه بناس المدينة ، بل اندماجه في مجتمعها ، وحضور جلساتها ، مثل الاستماع إلى ( القصخون ) في المقهى وما دار من حديث حول تأريخ كربلاء ـــ هنا نجد الكاتب يؤكد استكشافه للمدينة والبحث في كل التفاصيل من خلال حديث بطله عنها :ــ
( أخذت المدينة تتوسع عمرانيا بشكل دائري حول المرقدين ، وبدأت النشاطات تنمو فيها كبناء الخانات والأسواق ، وازداد التبادل التجاري ما بين المدينة وأطرافها ، وتطورت الصناعات الحرفية ، كونها مقصدا لآلاف الزائرين من المدن المختلفة ) ص 169
ويؤكد ذلك بقوله أيضا :ــ
( كنت أخرج أوراقي وأدون سيرتي وقصة رحلتي منذ اللحظات الأولى التي فكرت فيها بالهجرة من بغداد إلى كربلاء وما جرى طيلة هذه الفترة ) ص176
من هذه الفقرة بالذات نستشف أن المؤلف ( علاء مشذوب ) كان مصمما على ان تأخذ حكايته منحى المذكرات اليومية لتكون واقعية تماما ، حيث الغرض الرئيسي من كتابتها هو ( أرخنة أماكن المدينة ) ولا يمكن الارخنة إلاّ بتوثيق الأحداث بشكل واقعي جدا ، حيث نجد بطله ( يعقوب ) أو راويه العليم يقول :ــ
( برغبة الملهوف بدأت أجمع كل شيء يخص المتصرفية ) ص177
وكذلك يؤكد بقوله :ــ
( اشتريت كثيرا من الكتب التي كتبها أهل المدينة ، واهل العراق وبعض المستشرقين ، كما كنت التقي ببعض كبار السن وأسألهم عن كل ما هو قديم فيها ، عن عاداتها وتقاليدها وأفراحها وأحزانها والساسة واليرمازية واللوطيين والقحاب والقوادين والقوادات ، عن الأكلات الشعبية ، والأزياء والملابس ، والكليدارية والسادة وأنسابهم ، عن قصص العشق والعشابة والأمراض التي أصابت المدينة ، عن الحوزات العلمية ورجالها ، عن الملل والنحل التي كانت تعصف فيها قبل قرن من الآن ) ص177
هذه الفقرة بالذات تعطيك مفتاح الحكاية كلها ، إذ أن المؤلف جعل من راويه ناقلا لكل ما جرى ويجري في كربلاء خلال وقبل دخوله ومكوثه فيها بسنوات طويلة ، إذ جعلنا ندخل وإياه في حكاية الفرق الدينية مثل البهائية والبابية والشخية والكشفية وغيرها التي انطلقت من بين أزقتها وبيوتاتها ، بحيث أفرز أكثر من باب في روايته للحديث عن ( زرين تاج ــ قرة العين ) وحكايتها من الولادة وحتى مقتلها آخذا بيدنا صوب الفرق مالها وما عليها ، ذاكرا حقيقة يخاف ان يقولها الكثيرون منا وهي إن (( الأفكار والمذاهب تعصف بالناس وتجعلهم في صراع دائم )) وهذا ما حدث في كربلاء قبل عشرات السنين ، منوها إلى أن الاستقرار الديني والوئام الذي يعيشه الناس حالياً ــ أقصد زمن وقوع أحداث الرواية ــ هو بتفهم الجميع واحترامهم للأديان والمذاهب والقوميات ، إلاّ انه يقول في ص215 :ــ
( كنت أشعر بالحزن من أن هناك أيادياً خبيثة تحرك النار الخامدة تحت الرماد ، ولا ينتبه إليها أحد ) وهذا ما أجج الصراع بين القوميات والأديان وفتح النار بين الجميع !!
ويظل يطوف بنا في حكايته بيتا بيتا ، لنجد شخوصا تدخل المشهد وتخرج منه أما بالموت أو بالرحيل المفاجئ بعيدا عن المكان ــ خارج العراق ــ ، حيث نعيش حكايات كثيرة يرويها لنا المؤلف من خلال تتبعنا لسيرة يوميات بطله يعقوب التي يدونها منطلقا من هجرته الأولى صوب كربلاء واستقراره فيها إلى هجرة أبنائه بعد تزويجهم الى خارج العراق وبقائه وزوجته رغم عدم موافقتها على البقاء لكن إصرار يعقوب وحبها له يقسرانها على ذلك ، هنا يؤكد المؤلف أن هناك جذرا يمتد منذ آلاف السنين بين مواطني هذا البلد ، لا تفرقهم الأديان ولا المذاهب ولا القوميات ، إذا كانوا منتبهين لكل شاردة وواردة !!
علاء مشذوب أرّخ لنا في روايته مدينة أقيمت حديثا بشخوصها متعددي الأهواء والأفكار والمعتقدات وأماكنها ، ليقول :ــ أن الإنسان الذي يشيع المحبة والتعامل الأخلاقي المبني على الحب والصدق والنزاهة بين الناس والأرض هو أساس كل شيء جميل !!
علاء مشذوب جعلنا ندخل حمّامه لنتطهر من أدران وشوائب علقت بنا كي نخرج بعد ذلك حاملين معه مشعل المحبة والخير والسلام لنبني وطننا كما بنيت كربلاء التي رواها لنا يعقوب في حكايته هذه !!