د. عمار إبراهيم الياسري
شغلت إشكالية الذات والأخر التنظير السردي منذ سنوات ليست بالقليلة، إذ نجد تساؤلات كثيرة حاول المنظرون الوصول إلى إجابات وجودية لها مثل، ما هوية الذات الكاتبة حينما تواجه نفسها والآخر؟، وما مديات الاندماج والانفصال؟ ، وما الرؤية التي ينطوي عليها النص قبالة الوجود والموجود؟، وما علاقة القلق الوجودي للبطل وخلخلة الانتماء؟، هذه الأسئلة رافقت تشكلات البطل في السردية العراقية منذ عقود ، والأمثلة لا تعد ولا تحصى.
إن الهوية في ابسط مفاهيمها هي مصطلح اجتماعي نفسي سياسي يشير لوصف مفهوم الشخص وعلاقته مع الجماعات سياسيا وثقافيا وحضاريا .. الخ، في البدء كان هذا المفهوم قارا ، أما مع التحولات المعرفية والجغرافية أصبح مفهوما متنوعا ، إذ ربما تتشكل الهويات من خليط ما ثم يتم أعادة إنتاجها على وفق عادات وتقاليد جديدة على الرغم من الاختلاف الديني والعرقي الذي يكتنفها ، وقد اتفق المنظرون على وجود مشتركات معينة لتحقيق ذلك منها اللغة والأرض والتاريخ والحضارة والطموح وما إلى ذلك.
يفترض الروائي علي لفتة سعيد أن بطله محسن وقع تحت حيف أنساق سلطوية تجلت من خلال النص الروائي ومن هذه الأنساق، الأنساق البيروقراطية الدينية والأنساق الجيوسياسية والأنساق السيسيوثقافية، بمناخها الموحش العدائي وخطتها المحكمة في السيطرة والتحكم ما جعله يخرج من حيز الهوية على الرغم من حيازته لأغلب المشتركات مثل الأرض واللغة والتاريخ.. الخ.
فالراوي العليم بكل شيء هو الذي يطرح نمو الأحداث المعلبة بهذه الإشكاليات على شكل لوحات سردية صغيرة من خلال استخدامه للأفعال الماضية بشكل كبير، ولو تابعنا الأنساق البيروقراطية الدينية نجدها تتجلى بشكل واضح في عدة أماكن من الرواية، ففي الصفحة السادسة والسبعين نقرأ « وهو ينظر إلى كبيرهم الذي يضع العمامة على رأسه، كلمتان ورد غطاهم ، ما عليك ألا الإصغاء» ، ووردت أيضا في الصفحة الستين حينما خاطبه مهند « هذا لأنك لا تصلي ولا تذكر رحمة ربك ولا تشكره» وفي مكان آخر من الصفحة نفسها «الله يعاقبك لأنك تذكر رجال الدين بسوء وهم خليفة (خلفاء) الله على الأرض».
إن تعددية القهر الديني الذي تعرض له البطل جعله ينسلخ من الهوية المكانية دينيا، والأسباب بطبيعة الحال هي محاولات تعليبه وتغييب وعيه وهندسة سلوكه، وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف الألماني نيتشه حينما عد الاستبداد لعبة للإقصاء والتهميش والتشظي.
أما الأنساق الجيوسياسية والتي سنكتفي منها بنسق الهجرة فقط، والذي كان ماثلا في شتى تضاريس النص، وقد أشتغل هو الآخر على خلخلة هوية البطل، كما نلحظ ذلك في الصفحة السابعة عشر حينما يخاطبه الراوي العليم في مقارنة له مع ناهض « إذا لم تحصل على فرصة للتعيين ليس مهما، لأنه الأحق فهو ابن المدينة والتعيين من حقه لا من جاء إليها «، أو ما يرد على لسان مجتبى حينما خاطبه في الصفحة التاسعة والثلاثين « فكيف أنت القادم من الجنوب من عشرين سنة عجاف «.
إن عملية الاندماج المكاني تعرضت إلى شرخ وجودي من طرفين متناقضين الأول طرف مهند وناهض اللذان ابتعدا عنه بسبب تزلفهما إلى الأحزاب الدينية.. والثانية من قبل صديقه مجتبى حينما خاطبه في الصفحة الرابعة والتسعين « أما تتكيف مع الواقع الذي تعيش أو تعود إلى ديارك « على الرغم من عدم إيمانه بهذه السلطة القسرية المفروضة على محسن، فقد كان يؤمن بالشمولية المكانية حينما خاطبه في الصفحة الثانية والتسعين « علينا الخروج من دائرة المكان سواء كان مقدسا أو مدنسا لأن الإنسان زارع حضوره أينما كان «.
أما الأنساق السيسيوثقافية فقد تجلت بشكل مائز في الرواية وقد جعل منها الراوي العليم سلطة قهرية كما تبين ذلك في العديد من المقاطع السردية، فقد ورد في الصفحة الثامنة بعد المائة تخيل محسن مقابلة السيد الاطلساني والد صديقه مجتبى قائلا « سيتفحصني أبوك المبجل ويبدأ من قامتي وسحنتي الجنوبية.. أتخيله سينزع عمامته ويركض خلفي بنعاله المغلف المصنوع من جلد إيراني» ، في حين تجلى الاضطهاد الثقافي حينما وصف الراوي العليم الناقد البطريقي في الصفحة السادسة والخمسين بقوله « معتقدا هو وبعض من أمثاله انك تنافسه في المكوث أو التقديم «.
إن الأنساق المار ذكرها (البيروقراطية الدينية والجيوسياسية والسيسيوثقافية) خلخلت من انتماء البطل إلى المحيط والذات لذا كشفت لنا قلق الهوية في حيزها المكاني.
ولكن قبالة كل ما رسمه الروائي في مبناه ومعناه السردي للبطل نجد شخصيات أخرى ساندة للبطل لم تعان من أية اضطرابات في الهوية، فعلى الرغم من تعرض يوسف إلى سؤال من ناهض أو مهند كما ورد في الصفحة الثانية والستين « ما الذي جاء بك إلى هنا « إلا أن متابعة مسار الشخصية يكشف لنا عدم قلق انتمائها، والحال ذاته ينطبق على جمعة الذي وفد للمدينة بعد الأحداث الطائفية التي شهدتها بغداد في العام 2006 لكنه اندمج مع المحيط من خلال عمله في مصرف حكومي وإكمال دراسته الجامعية.
إن البطل كان محاط بمجموعة متناقضة فلسفيا واجتماعيا ونفسيا ترى فيه محور الحديث الرئيس والمنقذ لهم من كل الخيبات ساعة وهو الغريب ساعة أخرى ، لذا رسم لنا الروائي هذه الشخصية الإشكالية التي جعلت من الهوية محاطة بتساؤلات وجودية عميقة يقع فك شفراتها على المتلقي سواء كان معارضا أم مؤيدا.
انفتحت روايات ما بعد 2003 في المشهد السردي العراقي على الهويات والأقليات والمهمشين وما إلى ذلك وتركت للقارئ إيجاد مشغل ذهني خاص به من اجل استكشاف بنية الجدل ، وقد خلخلت مزامير المدينة ذلك المفهوم ، وهذا الجدل الفكري للهوية هو ما يبحث عنه القارئ النموذجي والضمني الذي عدته طروحات ما بعد الحداثة منتج أخر للنص مؤثرا ومتأثرا .
إن رواية مزامير المدينة رواية تشاكس الفكر وتستنطق المكان وتحاول أن تؤسس لمعناها الفلسفي والجمالي على وفق محمولات نسقية برع في صياغتها الروائي علي لفتة سعيد.
مزامير المدينة رواية صدرت عام 2018 عن دار الفؤاد للطباعة والنشر والتوزيع ، جمهورية مصر العربية.