إشارات سياسية:
تزايد في الآونة الأخيرة اتجاه عدد من دول الشرق الأوسط، مثل تركيا وإيران، إلى إجراء مبادلاتها التجارية مع شركائها التجاريين بالعملات الدولية بخلاف الدولار أو بالعملات المحلية، ويأتي ذلك في ظل سياق فرضت فيه الولايات المتحدة الأمريكية حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية على إيران بالتزامن مع توتر علاقاتها مع تركيا. واللافت في هذا السياق هو أن ثمة قبولاً دوليًا لعملات أخرى على الأخص اليوان الصيني مع تسعير جزء من عقود النفط بالعملة نفسها.
وفيما يبدو فإن هذه الخطوة تحمل دلالات سياسية خاصة برفض تأثير الدولار الأميركي على تجارة هذه الدول أكثر منها ذات جدوى اقتصادية، سيما مع التقلبات الشديدة التي تشهدها العملات المحلية لإيران وتركيا والهند في الفترة الماضية.
ظروف مختلفة:
دفعت ظروف دولية وإقليمية طارئة بعض دول منطقة الشرق الأوسط إلى إجراء معاملاتها التجارية مع بعض دول العالم بالعملات المحلية وذلك بدلاً من الدولار، ويتمثل أبرز مؤشرات ذلك في:
1- العقوبات الاقتصادية: باتت العقوبات الاقتصادية أحد الملامح الأساسية للمرحلة الراهنة على الساحتين الإقليمية والدولية، حيث تتجه الولايات المتحدة الأميركية نحو تطبيق حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية على إيران في تشرين الثاني نوفمبر المقبل سوف تشمل جميع الأنشطة الاقتصادية مع فرض قيود على وصول إيران للدولار وذلك لإرغامها على قبول إعادة التفاوض على الاتفاق النووي.
كما فرضت كل من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا بسبب تدخلها العسكري في شبه جزيرة القرم منذ عام 2014، بجانب عقوبات على فنزويلا وخاصة قطاع النفط.
وفي هذا السياق أيضًا، تشهد العلاقات بين واشنطن وبعض حلفائها في الشرق الأوسط توترًا غير مسبوق خاصة تركيا، وذلك على خلفية قضية القس الأمريكي أندرو برونسون. ومن هنا ترى هذه الدول كافة، أن التجارة عبر عملاتها المحلية، أو عملات أخرى قد تكون إحدى الآليات التي يمكن الاستناد إليها للتخلص من احتكار الدولار للتجارة الدولية وتقليص حدة الضغوط الأميركية.
2- عملات بديلة: بجانب الدولار العملة الأكثر انتشارًا عالميًا، هناك سلة أخرى من العملات الأخرى التي تحظى بثقة دولية متزايدة لاستعمالها في التجارة الدولية ودعم الاحتياطيات الأجنبية، يتمثل أبرزها في اليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني واليوان الصيني. وعلى الأخص بالنسبة لليوان الصيني، فقد ارتفعت حصته من قاعدة احتياطيات العملات في دول العالم إلى حوالي 1.4% في الربع الأول من عام 2018.
وعلى الرغم من ضآلة النسبة، إلا أن شركاء الصين من بعض الدول والشركات العالمية باتوا أكثر اهتمامًا بتسوية المعاملات المالية والتجارية معها من خلال اليوان بدلاً من الدولار. ويتوازى ذلك مع إجراء الصين اتفاقات لتبادل العملات المحلية مع كثير من دول العالم من بينها بعض دول في الشرق الأوسط مثل تركيا، وهو ما أسس لسعر صرف مستقر لليوان مقابل عملات بعض دول الشرق الأوسط في الفترة الماضية.
3- تجارة النفط بعملات أخرى: دفعت العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا منذ عام 2014 الأخيرة إلى إجراء بعض المعاملات التجارية مع شركائها بعملات أخرى بخلاف الدولار، وهو اتجاه أيده بشدة الرئيس فلاديمير بوتين خلال المنتدى الاقتصادي الشرقي الذي عقد في روسيا في أيلول سبتمبر الماضي، معدًا أن أهميته تكمن في تقليل اعتماد روسيا على الغرب وكسر احتكار الدولار لتجارة البلاد بما فيها الطاقة.
ومنذ تطبيق العقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا في عام 2014، أجرت شركة غازبروم الروسية، على سبيل المثال، بعض صفقاتها لبيع خام النفط إلى عملائها بالروبل الروسي واليورو، كما توصلت الشركة إلى اتفاقيات مع العديد مع عملائها تسمح بإمكانية التحول إلى التداول بالعملات الأخرى بخلاف الدولار في أي وقت.
وبما أن الصين باتت أكبر مستورد للنفط في العالم، أي في موقع يسمح لها بالتأثير على مجريات الطلب والعرض العالمي على النفط، فقد أجرت تحولاً نحو تسعير عقود النفط باليوان، حيث أطلقت، في أذار مارس الماضي، عقودًا نفطية آجلة مقومة باليوان في بورصة شنغهاى للعقود الآجلة لتمنحها، في خطوة مبدئية، مزيدًا من النفوذ في تسعير الخام المباع لآسيا.
توجهات إقليمية:
على ضوء الظروف الإقليمية والدولية السابقة، اتجهت بعض دول الشرق الأوسط إلى استعمال العملات المحلية في تجارتها مع العالم الخارجي، وفي مقدمتها تركيا وإيران. إذ أعلنت الأولى، في أيلول سبتمبر الفائت، عن إمكانية التحول إلى استعمال العملات المحلية في التجارة مع الدول الأخرى، بما في ذلك فنزويلا، وترى في ذلك وسيلة للتخلص من ضغوط استخدام الدولار الأميركي على وفق تصريح وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو في الشهر نفسه. ويتزامن ذلك، مع اتجاه تركيا لإصدار سندات مقومة باليوان للمرة الأولى وذلك في خطوة لتنويع مصادر تمويل موازنتها العامة.
أما إيران فقد قررت، في محاولة للالتفاف على العقوبات الأميركية الجديدة، إلغاء التعامل بالدولار الأميركي في المبادلات التجارية مع العراق، التي تعد أحد أهم شركائها، حيث سيجري استعمال عملات اليورو والريال الايراني والدينار العراقي على وفق تصريح رئيس غرفة التجارة الإيرانية- العراقية يحيى آل اسحق في الأول من أيلول سبتمبر الفائت.
كما يجري البنك المركزي الإيراني مناقشات مع روسيا وتركيا في مسألة التجارة باستعمال العملات المحلية أيضًا. وسبق أن شجعت السلطات الإيرانية استعمال اليورو بدلاً من الدولار كجزء من جهودها الطويلة التي استمرت لخفض الاعتماد على العملة الأميركية وسط المواجهة المستمرة مع واشنطن والعقوبات الاقتصادية التي فرضت عليها في المدة من عام 2012 وحتى عام 2015.
وبحسب بعض الترجيحات، فمن المتوقع أن تقوم الهند بتسوية مدفوعات الخام الإيراني باستعمال الروبية عبر بنوك محلية بداية من نوفمبر المقبل في الوقت الذي ستصعب فيه تسوية تجارة النفط عبر البنوك بسبب العقوبات الأميركية على طهران، وهو ما قد يشجع دولاً أخرى لتسوية معاملاتها مع إيران بعملاتها المحلية.
عقبات محتملة:
بطبيعة الحال، لا يرجع إقبال تركيا وإيران على استعمال عملات محلية في تجارتها مع شركائها إلى مسألة الجدوى الاقتصادية فحسب، وإنما نظراً للأوضاع الجيوسياسية الراهنة، فإن إجراء هذا التحول المعلن يحمل بين طياته العديد من الإشارات السلبية على الرفض الإقليمي والدولي لنفوذ الدولار الأميركي في نظام المدفوعات الدولية، وهو ما قد تستغله الولايات المتحدة الأميركية لصالحها في إدارة أزمات الشرق الأوسط في كثير من الأحيان.
لكن فيما يتعلق بالجدوى الاقتصادية، فرغم أهمية هذه الخطوة – التي قد يستغرق تطبيقها مدة طويلة – في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية بالنسبة لإيران على سبيل المثال، إلا أنها تحمل مخاطر واسعة نظرًا لتقلبات عملات الأسواق الناشئة والنامية في الآونة الأخيرة.
وعلى سبيل المثال، يعاني الريال الإيراني من تدهور شديد في المرحلة الماضية على ضوء العقوبات الأمريكية، حيث انخفضت قيمته بأكثر من 50%، في حين تعاني الروبية الهندية من تقلبات في المدة الأخيرة، ما يشكك في جدوى التبادل التجاري بالعملة الهندية أو الإيرانية. وبخلاف السابق، فإن أيًا من العملتين السابقتين لا تحظيان بالقبول الواسع للدولار الأميركي في التجارة الدولية، بما يجعل الأكثر احتمالاً لها أن تستعمل عملات ذات قبول دولي ربما قد تكون اليورو أو اليوان الصيني.
*مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية