عبد الغني سلامة
بالعودة إلى الزمن السحيق، حين بدأ الإنسان مغامرته الأولى بتقنيات حجرية وأفكار بدائية عن الكون والحياة، سنجد أن تقنياته تلك كانت لتلبية حاجاته اليومية، وأفكاره الدينية كانت استجابة للانفعالات العاطفية التي ظلت تجتاحه في عزلته، أو هي توسلات لقوى ما ورائية تسمو عليه، أو إجابات فطرية عن أسئلة وجودية كلية، تطورت ونمت حتى شكلت فيما بعد النواة الصلبة للدين، بنفس المسار الذي تطور حَجَرُه إلى الحاسوب.
أي أن كل ارتقاء فكري أو مادي سلكه فيما بعد إنما كان تطوراً لما بدأه قبل نحو مليون عام (فراس السواح).
وكما سعت التكنولوجيا لتسهيل حياة الإنسان، حاولت الأديان أن تطفئ ظمأه الأزلي للمعرفة، وأن تمنحه اليقين والسكينة في واحة من الأمان الأبدي، ولكن إلى أي مدى نجحتا (التقانة والدين) في مسعاهما هذا؟!
أقامت الديانات السماوية بنيانها الفكري والعقائدي على أن الله سبحانه هو الخالق والمهيمن والمدبر، لذلك دعت لتوحيد الذات الإلهية، وسعت لتحقيق سعادة الإنسان وتهذيب آدميته وتقويم سلوكه من خلال الربط بين الإنسان وخالقه وحاجته إليه، وركزت على مفهوم العقاب والثواب والحياة الآخرة.. ولكن السلطات، ورجـال الـدين (كما قال روجيه غارودي) حـوّلوا تلك الديانات السـمحة إلى أصـوليات وعصبيات، وكفّروا كل من خالفهم، وصار الدين بالنسبة لهم مجرد هوية عنصرية طائفية لا تُبعد أتباعها عن أتباع الديانات أو الطوائف الأخرى وحسب، بل جعلت من هذا البُعد سببا وذريعة لحروب طاحنة؛ فقضوا على الروح الحيوية الخلاقة لمبادئ الدين السامية، وزرعوا بقراءاتهم المغلوطة بدلاً منها الشر والحقد في كل مكان.
ويزعم البعض أن «الدين» ليس طريقاً إلى الله كما يقول الخطاب الديني، بل أطروحة للتنظيم الاجتماعي تكتسب طابعاً مقدساً يدعي بأنها طريقٌ تؤدي إلى الله.. وبالتالي لا يختلف أي دين عن القوانين الوضعية، سوى أن الدين يدعي نسبتها إلى الله، والقانون الوضعي يصرح بأنه بشري! وكلاهما يقوم بنفس الوظيفة، ويؤدي ذات الغرض الاجتماعي الصرف.
ويقول د. «مصطفى محمود»: «ليس متدينا من تعصّب أو تحزّب، وتصور أن نبيه هو النبي الوحيد، وأن الله لم يأتِ بغيره.. فإن هذا التصور لله هو تصور طفولي متخلف، يظن أن الله عبارة عن شيخ قبيلة، مثل هذا الإحساس هو عنصرية وليس تدينا».
وطالما أن جميع المؤمنين متفقون على أن الرب واحد، وأن الأديان لله، والأنبياء مرسلين من عنده، فإن المنطق الطبيعي يقول إن على المؤمن ألا يعتقد بأن الله قد هدى الفئة التي ينتمي إليها فقط، وأضل الفئات الأخرى، لأن هذا الاعتقاد سيجعل من الأديان مجرد غطاء للانقسامات الإثنية والعرقية، وسيجعل أتباع الديانات تقاتل بعضها باسم الدين، لأن كل واحد من أتباع تلك الديانات سيجزم أنه صاحب الحق. وهذا ما حصل للأسف مع بني الإنسان.
الديانات الأخرى التي تركزت في وسط وشرق آسيا، صبت اهتمامها على الذات البشرية، فرأى مؤسسوها أن سعادة الإنسان تنبع من داخله، وحتى ينالها عليه أن يتخلى عن شهواته وأنانيته ويقضي على بذور الشر فيها، عندها سيستطيع أن يتحد مع الإله وينال السعادة الأبدية، فالجنة والنار حسب هذه الديانات هي في داخل الإنسان وليستا خارجه. ولكن الإنسان في تلك البقاع ليس أفضل حالا من غيرها، فقد ظلت تلك المبادئ الإنسانية متعالية على الواقع، وظل الإنسان مغتربا ومعذَّبا.
شهد القرن السادس قبل الميلاد الإرهاصات الأولى لتلك الديانات، وقد مثلت تلك الحقبة ذروة النشاط الإنساني الفكري، وقد ظهر في تلك الآونة «زرادشت» في إيران، وكل من «كونفوشيوس» و»لاوتسي» في الصين، و»بوذا» في شمال الهند، و»فيثاغورس» في اليونان، ثم تبعه «سقراط» و»أفلاطون»، أما في بلاد الشام وأرض الرافدين فقد كانت تلك الحقبة مسرحا لصراعات البابليين والفرس، والتي انتهت بجلب المسبيين من بابل إلى القدس.
كل هؤلاء المبشرين والمصلحين وحتى المدّعين – باستثناء اليهودية الجديدة التي جاءت على خلفية صراعات سياسية كبرى – شقّوا لأنفسهم فلسفات دينية وأخلاقية لا ترتكز على وجود إله، أو أن الإله فيها ثانوي، فالبوذية مثلا لم تكن معنية بالإجابة عن سؤال من خلق الكون؟ وكيف؟ وركزت عوضا عن ذلك على تخليص الروح من عالم لا يحمل إلا الشقاء والمعاناة، ودعت للاتحاد مع الطبيعة.. وفي مسعاها تعتمد على قوة الإنسان الداخلية وحدها.
والهندوسية – التي انشقت عنها البوذية – تكاد تخلو من قواعد التحريم والتحليل والعقاب والثواب، فهي أقرب إلى أن تكون فلسفة حياة موجهة نحو الذات البشرية، تسعى إلى تحريرها من أثقال الحياة والمادة والشهوات وصولاً للاتحاد مع الذات الكونية.
الديانات الأخرى التي انبثقت عنها عدت أن التأمل أفضل وسيلة لمعرفة الحقيقة وتنقية الذات وإحلال السلام الداخلي في قلب الإنسان تمهيداً لمرحلة الاستنارة، ورأت أن إطلاق الطاقات الروحية والعقلية للإنسان وتوجيهها نحو الطريق الصحيح هو الذي يعطيه شحنة علوية تمكنه من التوحد والانسياب التلقائي مع الطبيعة، فيتقبل عمل الطبيعة كما هو من دون اعتراض، حيث عدت أن الطبيعة هي التي تحرر الإنسان من أنانيته، وتسمو به إلى آفاق روحانية عليا، وكلما ابتعد عن الطبيعة، أو آذاها زاد شقاؤه وابتعد عن إنسانيته.
إذن؛ فالأديان جميعها المنـزلة والأرضية، عرّفت الإنسان وغايات وجوده وأسباب سعادته، وسعت لتخليصه من الشرور، ولكن الإنسان ومنذ الثورة الصناعية أخذ منحى آخر، فكما قال «غارودي»: أراد أن يحل مكان الخالق، فانتهى به المطاف أن حلت الآلة مكانه، حَلم هذا الإنسان أنه سيتمكن بوساطة المادة وما شكّل بوساطتها من اختراعات أن يصبح سيد الطبيعة والمتحكم فيها، فقاده جشعه للتحكم بالشعوب الأخرى وسحقها، كان الرجل الأبيض بطل هذه المغامرة، فسمّى انتصاره على الشعوب المقهورة تقدما وحضارة!
الحقيقة الثابتة أن الناس دوما مختلفون فيما بينهم.. وكل من يعتقد أنه يمثل الصواب حصريا إنما هو مدعٍ وواهم، فكل صواب فيه قدر معين من الخطأ، والعكس صحيح.
عن جريدة الأيام الفلسطينية