شكيب كاظم
يعد القاص والروائي العراقي فؤاد (عبد الرحمن محمد سعيد) التكرلي (1927-2008) أحد الذين وضعوا الأساس الحقيقي لفن القصة والرواية في العراق, فإذا كان محمود احمد السيد الرائد الأول لفن القصة والرواية في العراق, إلى جانب عطاء أمين المُقّل في الكتابة (وسليمان فيضي) صاحب (الرواية الإيقاظية), فإن البناة الذين واصلوا الدرب أمثال: ذو النون أيوب وعبد المجيد لطفي ليستوي الزرع على سوقه يُعجِبُ الزرّاع والقراء, على يد الجيل الخمسيني ممثلاً بفؤاد التكرلي, وعبد الملـك نـوري وغائـب طعمـة فرمـان
يحيـى جواد الخطاط والنحات والرسام والقاص, الذي ضربه المرض الوبيل فَشّلَ جسده قبل ان يميته, وإذا رضيَّ بعضهم من الغنيمة بالاباب لأسباب ذاتية وموضوعية, واصل مبدعنا الكبير فؤاد التكرلي, بوحه الإبداعي الجميل: قصة ورواية وحواريات, ومنها حوارياته التي سماها (الصخرة) فكانت أولى مجاميعه القصصية قد صدرت عام 1960 في ضمن منشورات مجلة (الثقافة الجديدة) واحتوت على ست قصص, فضلاً عن قصته الطويلة, أو روايته القصيرة (الوجه الآخر), التي أمست عنواناً لهذه المجموعة التي مثلت باكورة إبداعه المنشور, ليعـاد نشرهـا ثانيـة عام 1982.
وإذ صمت هذا الجيل الخمسيني, بسبب اضطراب الحال السياسي, والشعور بالإحباط, وإن حسابات الحقل بعيدة عن حسابات البيدر, فسكت عبد الملك نوري, في حين آثر غائب طعمة فرمان الرحيل ومغادرة العراق, والكتابة روائياً عن العراق من خارجه, كذلك صمت الصقر, أكثر من ربع قرن ليصدر عام 1986 مجموعته القصصية الثانية (حيرة سيدة عجوز) بعد ان كان أصدر مجموعته الأولى (غضب المدينة) عام 1960.
عُرِف عن التكرلي تأنيه في إذاعة أعماله الإبداعية, فالكتابة لديه مسؤولية, إنه يحترم قارءه, لذا أمضى أحدى عشرة سنة كي يطلَعْ على القراء برائعته (الرجع البعيد) وأدار حوار شخوصها بالعامية.
ما يميز الجيل الخمسيني, استخدام العامية, ولعل ذلك متأت من تأثيرات الواقعية, للاقتراب من أفهام الناس, فقد استخدم التكرلي في روايته هذه العامية البغدادية الموغلة في عاميتها, وهو مافعله كذلك غائب في روايته الأولى (النخلة والجيران), وفي الحوار الذي أجراه معه الناقد العراقي الدكتور نجم عبد الله كاظم, ونشره في كتابه النقدي المهم الموسوم بـ (الرواية في العراق 1965-1980 وتأثير الرواية الأمريكية فيها) الصادرة طبعته الأولى سنة 1987, الذي هو جزء من متطلبات الحصول على الدكتوراه وناقشه فيها الدكتور داود كاوون سنة 1983 وسيستل هذه الحوارات المهمة التي أجراها مع جبرا إبراهيم جبرا والتكرلي وعبد الرحمن مجيد الربيعي وغائب, ويعيد نشرها في كتاب صدر عن دار الشروق عام 2004 عنوانه (حوارات في الرواية) في هذا الحوار يدافع غائب عن عامية حواره قائلاً: أنا أحس بهذا الانشطار في اللغة وأتعذب منه, لكني أحس بأن الحوار إذ ما جرى بلغة أقرب إلى الواقع المعاش فسيكون حواراً صادقاً, أكثر منه إذا جرى بلغة أخرى تصور ماتكون عليه (النخلة والجيران) مثلاً إذ ما جُرّدَت من حوارها العامي؟!.
وإذ جاءت (الرجع البعيد) بحوارها العامي الذي مثل معضلة لدى تولي رشيدة التريكي ترجمتها إلى الفرنسية, جاءت روايته الأولى (بصقة في وجه الحياة ) التي كتبها سنة 1949, وهو يعاني أزمة نفسية, ونشرها بعد نصف قرن مَرَّ على كتابتها, خالية من الحوار العامي, مما يؤكد تهافت دعوى الاقتراب من أفهام الناس والواقع المعيش, هذه الرواية التي تأخر نشرها في العراق, نصف قرن, بسبب موضوعتها الصادمة, لأذواق الناس التي تتحدث عن الزنا بالمحارم, فتظل هذه الثيمة تلقي بظلالها الكابية على العديد من أعمـال التكرلي, فإذ يعتدي الأب على ابنته في الرواية هذه يعتدي الأب – كذلك- على زوجة ابنه (جبار) في قصة (القنديل المنطفئ) مـن مجموعـة (الوجـه الآخـر).
ولعل بروز هذه الظاهرة في أعمال فؤاد التكرلي, ناتج عن اشتغاله بالقضاء والقانون, وما تعرض عليه من مشاكل اجتماعية ونفسية.
كتب التكرلي – كذلك – الرواية النفسية, إذا قامت ثيمة روايته (خاتم الرمل) على العقدة الأوديبية, ومع انه في أكثر من حوار أجري معه, ينفي هذه الظاهرة, فإن قراءة, متأنية لها تؤكد هذه الظاهرة, فضلاً عن بروز ظاهرة الجنس في روايته (المسرات والأوجاع) وإسهاب في تصوير العملية, لذا فأنا لا أكاد اتفق مع تفسير أستاذي الناقد والباحث علي جواد الطاهر (1919-1996) لهذه المعضلة قائلاً: ان التكرلي لا يطلب الجنس لذاته, وإنما يريده إنسانياً بالمعنى الواسع للكلمة), ولا اعرف تفسيراً لذلك فالجنس جنس, وما معنى ان يكون إنسانياً أو لا يكون؟! – تراجع مقالة الطاهر المعنونة بـ (الرجع البعيد) نشرت بالعدد الخاص بالتكرلي من مجلة (الأقلام) العراقية عام 1986.
كما كتب التكرلي قصصاً قصيرة قائمة على ما عرف نقدياً بـــ_ (بنية التضاد) وأنا اميل إلى استخدام مصطلح (بنية الطباق) المصطلح البلاغي العربي, الطباق, الذي يعني بلاغياً الشيء وضده, فقدم لنا مجموعته الرائعة(حديث الأشجار).
وكما غادر غائب الحوار العامي, بعد روايته (النخلة والجيران) بسبب أجوائها الشعبية, والمحلة البغدادية التي تكاد أجواؤها تنقرض من الحياة, إذ جاء حوار روايته الثانية (خمسة أصوات) التي تولت دار الآداب اللبنانية, إصدارها عام 1967, التي تسرد حيوات خمسة من مثقفي المدينة منهم: حسين مردان، وعبد المجيد الونداوي, الصحفي الرائد إذ جاء حوارها بالفصيحة, فإن التكرلي – هو الآخر- ربما لاختمار التجربة واتساعها, أو للصعوبة التي واجهت من ترجم روايته (الرجع البعيد) للفرنسية, قد غادر الحوار العامي في روايته (اللاسؤال واللاجواب) فضلاً عن مجموعته القصصية (خزين اللامرئيات).
وكما عانينا صعوبة في فك طلاسم لغـة الـحوار العامـي السودانـي لروايات ( دومة ود حامد) و(مريود) و (عرس الزين) للروائي السوداني الطيب صالح (1929-2009) في حين أدار حوار روايته الأولى الرائعة (موسم الهجرة إلى الشمال) بالفصيحة, ربما لأجوائها اللندنية, وعيـش بطلها (مصطفـى سعيد) الدارس في الجامعـات البريطانية هناك, فـإن القراء العرب – لاشك- عانوا صعوبـة في فهم حوار روايته (الرجـع البعيـد) مما يؤكد ضرورة العربية الفصيحة أداة للحوار والتوصيل.