بالرغم من العدد الهائل مما يسمى “مسؤول” في المشهد العراقي قبل “التغيير”وبعده، إلا أنه يصعب علينا العثور من بينهم على من توقف مع نفسه وحطام عقله وضميره؛ كي يتعلم شيئاً من المصائب والكوارث المتتالية التي حلت على هذا الوطن، جرّاء تنطعهم لسنام تلك المسؤوليات، وهذه اللعنة تورمت بنحوٍ لا مثيل له مع قذف الأقدار لـ “بستان قريش” الى من أعاد لثارات تلك القبيلة المقدسة وهجها وفواتيرها الممتدة من “بغدان لتطوان”، إذ تلقفت هذه الطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة، بكل خرقها وهلوساتها وشراهتها المنفلتة مقاليد أموره، لمرحلة يفترض أنها حملت لشعوبه أمل استرداد مكانتهم وأحلامهم المهدورة طوال أكثر من ألف عام وعام. زمن البعث كان ذلك “المسؤول” مسكونا ببعث ماضي أمته التليد كما يتخيل وفقاً للهذيانات التي دوّنها عفلق، ولم يختلف أمر “المسؤول” الذي جاءت به حقبة الفتح الديمقراطي المبين من شتى الرطانات والهلوسات والأزياء، عن سلفه البعثي في اعتصامه بعروة الرسائل الخالدة وفواتير دمارها الشامل الممتدة من الفاو لزاخو.
“مسؤول” لا علاقة له بهموم وتحديات عصره في مجال إنتاج الخيرات المادية والروحية والخدمات وتطلعات ذلك المخلوق الذي حاولت السماء تكريمه ذات عصر، ولم تعرف سيرته الشخصية أي تدرج وظيفي ومهني، يتقافز على سلّم المسؤوليات وفقاً لمزاج وذائقة حيتان الكتل المتنفذة ومعايير خرابها المدمر؛ لا يحتاج تعلم أي شيء سوى ما يرضي أرباب نعمته عنه من مواهب التذلل والتزلف، فلا دروس وعبر اقتصادية وعملية ومعرفية وقيمية يمكن أن تجذب منظومة اهتماماته كتابع ذليل لسكراب المخلوقات والعقائد والقيم. وها نحن نطوي تجربتنا مع الدورة الرابعة للانتخابات العراقية ولم تطفح على سطح الأحداث والمعطيات أدنى علامة على وجود زحزحة ولو طفيفة في هذا الملف الحيوي؛ توزيع المسؤوليات العليا في البلد، فهي كما العبارة المشهورة “تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي” وهاهم غيلان المحاصصة يضعون مصنوعاتهم ومخلوقاتهم على سنام السلطات العليا في البلد، ومنها ستتقافز جموع “المسؤولين” الى بقية مستويات الهرم الوطني المستباح. فعن أية إصلاحات وتكنوقراط ومهنية ونزاهة وشجاعة يجري الحديث، لا شيء سوى إعادة ترميم وتدوير لبضائع ومطامع طبقة سياسية تعكس واقع ما انحدرنا اليه كجماعات وأفراد طوال أكثر من نصف قرن من الهزائم على شتى الأصعدة.
ما يحيط بنا ومانتخبط به من مناخات وشروط واهتمامات، يقطع الطريق أمام فرص وصول مسؤول حقيقي لما يستحقه من مواقع ومسؤوليات، ومن يجازف في التسلل اليها سيلقى ما لا تحمد عقباه، وسيبدو أحمقا ومعتوها إن توهم يوماً في لعب دور طيب الذكر “دون كيشوت” وسط هذه الأجواء المدججة بكل ماهو معادي وطارد للوطنية الحقة والنزاهة والكفاءة وروح الإيثار، وبقية المنظومة التي اغتربت عن مضاربنا المنحوسة منذ عقود. قد يبدو هذا الطرح متشائما لدى البعض، لكن دعهم يأتونا بمثال عن جميع من أباح لنفسه تقلد المسؤوليات العليا في السلطات الثلاث توقفوا فيه عند تجربتهم مع تلك “المسؤولية” والدروس والعبر التي يفترض بهم تقديمها الى شعبهم المنكوب كما تجري الأمور عادة في البلدان التي عرفت سن التكليف الحضاري، لكن ذلك لن يحصل وإن حصل فستزيد كتاباتهم المشهد ضياعا والتباساً، لأنه لن يختلف عن المنهج والسلوك الذي اتبعوه عندما نكبت المواقع و”المسؤوليات” بهم..!
جمال جصاني
لم لا يتعلم “المسؤول”..؟
التعليقات مغلقة