عقدت المجلتان الشهريتان لا موند ديبلوماتيك، والفصلية ريفيو ديتويد بالسيتينيان، التي ينشرها في باريس معهد الدراسات الفلسطينية، مؤتمرًا الاسبوع الماضي حضرته مشاركاً. بالرغم من الاعلان بأنها المرة الاولى التي تبادل فيها ما يسمى بالمؤرخين الاسرائيليين (الجدد) ونظرائهم الفلسطينيين الافكار علناً، لكنها كانت المرة الثالثة او الرابعة فعلياً، لكن ما جعل لقاء باريس جديدًا هو بالتأكيد التبادل المطول بينهما الذي حدث لأول مرة.
من الجانب الفلسطيني كان ايلي سامبار ونور مصالح وانا، ومن الجانب الاسرائيلي بيني موريس، وايلان باب،ي واتمار رابينوفيتش (الذي لم يكن مؤرخاً جديداً وانما مستشار سابق لحزب العمل، وسفير اسرائيل في الامم المتحدة، واستاذ التاريخ في جامعة تل ابيب وخبير في الشؤون السورية، لكن افكاره متبدلة)، واخيراً زيف ستيرنهيل، مؤرخ اسرائيلي من الجناح اليمين للحركات الشعبية في اوروبا، استاذ في الجامعة العبرية، ومؤلف لعدد من الكتب المهمة عن اساطير المجتمع الاسرائيلي (اهمها-بانها دولة ليبرالية واشتراكية وديمقراطية-التي دحضها تماماً بتحليل مفصل ومميز عن طبيعتها غير الليبرالية والفاشية الظاهرة والمعادية للاشتراكية بنحو عميق كما ثبت ذلك من خلال حزب العمل والهيستدروت بنحو خاص).
بسب عدم الاعلان الجيد، كان حضور المؤتمر قليل اجمالا، لكن بسب نوعية المادة المقدمة والجلسات الطويلة التي استمرت عدة ساعات، كان تمريناً ثميناً برغم تفاوت بعض الاسهامات في المستوى. كان أحد انطباعاتي القوية، بينما كان المشاركون الاسرائيليون-الذين كانوا من غير شك من القناعات السياسية نفسها -يتكلمون دائماً عن الحاجة الى عدم التحيز، والابتعاد النقدي، والهدوء التأملي كأشياء مهمة للدراسة التاريخية، كان الجانب الفلسطيني اكثر إلحاحاً، واقسى، وعاطفي ايضاً في اصراره على الحاجة الى تاريخ جديد. السبب طبعاً ان اسرائيل وبالتالي الإسرائيليين هم الطرف المسيطر في الصراع: هم يسيطرون على كل الأراضي، ويملكون كل القوة العسكرية، ولذلك يستطيعون اخذ وقتهم الكافي، ولديهم وسائل الترف للجلوس، وترك الجدال يكشف عن نفسه بهدوء.
فقط ايلان بابي الاشتراكي المعلن والمؤرخ المعادي للصهيونية في جامعة حيفا، اعتنق وجهة النظر الفلسطينية، وبرأيي قدم اروع المداخلات الاسرائيلية المهاجمة للمعتقدات الدينية والمؤسسات التقليدية. اما بالنسبة للأخرين فقد رأوا بدرجات متفاوتة ان الصهيونية ضرورة لليهود. لقد فوجئت مثلا عندما اعترف ستيرنهيل في الجلسة الختامية ان ظلماً خطيراً ارتكب ضد الفلسطينيين، وان الصهيونية في جوهرها حركة للغزو، ثم استمر قائلا بأنه كان غزواً ضرورياً.
احد اهم الاشياء اللافتة للنظر بشأن الاسرائيليين، مرة أخرى باستثناء بابي، هو التناقض العميق، المحاذي للشيزوفرينيا الذي يميز عملهم. في حين موريس مثلا كتب منذ عشر سنوات اهم عمل اسرائيلي عن نشأة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين . باستعماله لأرشيف الهاغانا والصهيونية، برهن من دون أدنى شك على وجود تهجير جماعي قسري للفلسطينيين نتيجة سياسة محددة تبناها ووافق عليها بن غورويون.
اظهر عمل موريس المملوء بالتفاصيل غير المهمة ان القادة العسكريين أمروا بطرد الفلسطينيين من منطقة اثر أخرى، وحرق قراهم والاستيلاء الممنهج على ممتلكاتهم وبيوتهم. والاغرب من ذلك يبدو موريس في نهاية كتابه معارضاً لاستخلاص نتائج دليلة الحتمية، بدلا من القول صراحة ان الفلسطينيين طردوا.
قال انهم طردوا جزئياً بواسطة القوات الصهيونية، وجزئياً رحلوا نتيجة الحرب. وكأنه ما يزال صهيونياً في اعتقاده بالنسخة الايديولوجية-من ان الفلسطينيين رحلوا من دون طرد اسرائيلي-اكثر من قبوله بدليله بنحو كامل، الذي يرى ان السياسة الصهيونية امرت بالتهجير الجماعي للفلسطينيين، وبالمثل يعترف ستيرنهيل في كتابه ان الصهاينة لم يعدّوا العرب مشكلة ابداً، لأنهم لو فعلوا ذلك فأنهم سيعترفون صراحة ان الخطة الصهيونية لتأسيس دولة يهودية لا يمكن ان تتحقق من دون التخلص من الفلسطينيين، لكنه ما يزال مصراً في المؤتمر بأن طرد الفلسطينيين كان ضرورياً، برغم انه خطأ اخلاقي.
برغم هذا التنافر كان الامر مثيرًا حين ضغط بابي او الفلسطينيون بنحو اقوى تردد كل من موريس وستيرنهيل. عدّت اراءهم المتبدلة علامة على تبدل اعمق بحدث داخل اسرائيل. لكن النقطة هنا ان التبدل المهم في الخطوط الرئيسة للإيديولوجية الصهيونية، لا يمكن ان يحدث فعليا ضمن هيمنة السياسة الرسمية العمل او الليكود، وانما خارج ذلك السياق الخاص، أي وسط المثقفين الاكثر حرية، ليفكروا ويتأملوا الحقائق المقلقة لإسرائيل الحالية.
مشكلة المحاولات الاخرى للمثقفين من الجانبين للتأثير على سياسات نتنياهو مثلا كما في حالة جماعة كوبنهاغن انها اقتربت جداً من الحكومات ذات النظرة الضيقة والقصيرة للأشياء.
لو اظهرت السنوات منذ 1993 أي شيء فسيكون افتقار وجهة النظر الصهيونية الرسمية في الصراع ضد الفلسطينيين للجدوى والاهمية الليبرالية والاستنارة (وهذا صحيح بالنسبة للجناح اليساري مثل ميريتس او الوسط مثل شيمون بيريز) المعدة لتعيش في الشيزوفرينيا التي اشرت لها آنفا.
نعم نحن نريد السلام لكن لا، لم يكن هناك أي خطأ فيما فعلناه في عام 1948 بقدر الاهتمام بالسلام الحقيقي، هذا التناقض الاساسي لا يمكن تبريره والدفاع عنه، نظراً لأنه يقبل ايضاً فكرة ان الفلسطينيين الذين في ارضهم دونيين لليهود. اضافة الى ذلك انه يقبل بالتناقض الاساسي بين الصهيونية والديمقراطية (كيف يمكن ان تكون هناك دولة يهودية ديمقراطية ويعيش فيها مليون مواطن غير يهودي، غير متساويين في الحقوق، وتملك الأرض والعمل مع اليهود؟) الفضيلة الكبرى للمؤرخين الجدد ان اعمالهم في الاقل تدفع بالتناقضات التي في داخل الصهيونية الى حدودها القصوى، التي لولا ذلك لن يراها اغلب الإسرائيليين، ولا حتى الكثير من العرب.
وصحيح بالتأكيد ان الاهمية السياسية للمؤرخين الاسرائيليين الجدد انهم اكدوا ما قالته الاجيال الفلسطينية من مؤرخين وغيرهم بشأن ما حدث لنا كشعب على يد اسرائيل. وطبعا هم فعلوا هكذا كإسرائيليين يتكلمون الى حد ما بضمير شعبهم ومجتمعهم. لكني هنا اتحدث بنقد الذات، واشعر كعرب عموما وكفلسطينيين خصوصاً، بأننا يجب ان نكتشف تاريخنا واساطيرنا وافكارنا البطريركية عن الامة، الشيء الذي من الواضح اننا لم نفعله بعد لأسباب واضحة.
في اثناء الحلقة الدراسية في باريس الفلسطينيون بما فيهم انا كنا نتحدث بشعور كبير بالإلحاح والاستعجال بشأن الحاضر، بما ان النكبة الفلسطينية تستمر في هذا الحاضر. يستمر الطرد والتنكر للحقوق، الذي اخذ اشكالا جديدة من القسوة. ومع ذلك كمثقفين ومؤرخين علينا واجب للنظر الى كل تاريخ، تاريخ قياداتنا ومؤسساتنا بعين نقدية جديدة. هل هناك شيء ما عن تلك التي بما تستطيع ان تفسر الصعوبات كشعب يجد نفسه فيها الان؟ ماذا عن الصراع بين العائلات الكبيرة او الحمولات، وحقيقة ان قادتنا لم ينتخبوا ديمقراطيا كما هي العادة، والحقيقة الكارثية الاخرى، اننا نعيد انتاج الفساد والوسطية في كل جيل؟ هذه قضايا مهمة وحاسمة، ولا يمكن ان تظل بلا أجوبة، او مؤجلة الى وقت غير محدد تحت قناع الدفاع القومي والوحدة القومية. ربما كانت هناك بداية يقظة في النقد الذاتي في كتاب «يزيد صايغ» الجديد عن تاريخ الصراع الفلسطيني المسلح، لكننا نحتاج الى عدد اكثر من الاعمال السياسية والنقدية المشابهة اعمال تدرك كل التعقيدات والتناقضات في تاريخنا دون ان نخجل منها.
لا اعرف للآن ان كانت اعمال موريس وبابي او ستيرنهيل قد ترجمت للغة العربية او لا. يجب ان يعالج هذا الغياب فورا. مهمة جدا، كما اعتقد الحاجة بأن يتفاعل مثقفون عرب مباشرة مع هؤلاء المؤرخين بدعوتهم الى نقاشات وحوارات في الجامعات العربية، والمراكز الثقافية، والمنتديات العامة. كما اعتقد بالمثل ايضاً ان من واجبنا كفلسطينيين وكمثقفين عرب ايضاً، ان نجذب أكاديميين اسرائيليين وحضور مثقف لألقاء المحاضرات في المراكز الاسرائيلية علنا وبشجاعة وصلابة.
ما الذي ما الذي فعلته لنا كل سنوات رفضنا لإسرائيل؟ لا شيء اطلاقا ما عدا انها اضعفتنا واضعفت بصيرتنا لخصمنا. السياسات منذ عام 1948 وصلت الى نهايتها ودفنت في فشل عملية اوسلو لمحاولة الفصل بين اليهود الاسرائيليين والفلسطينيين كجزء من السياسات الجديدة التي اتكلم عنها في هذه المقالات فرصة ممتازة تقدم نفسها في تفاعل مستمر مع المؤرخين الاسرائيليين الجدد، الذين برغم انهم اقلية صغيرة، لكنهم يمثلون ظاهرة بالغة الاهمية هذا العمل مثلا، له تأثيرا كبير على 22 جزء من مسلسل تيكيوما، الذي عرض على التلفزيون الاسرائيلي كتاريخ دولة امتد الى احتفالاتها بعيدها الخمسين، هم مطلوبون جدا في المدارس الاسرائيلية كمحاضرين، وجذبت اعمالهم انتباه المؤرخين الاخرين في اوروبا والولايات المتحدة، من غير السوي وهذا لا يعني التراجع بأن العالم العربي هو المكان الوحيد الذي لم يسمعه فيه جيدا وبنحو كامل، لكن يجب علينا ان نتخلص من تحاملنا العرقي، ومواقف النعامات، وان نبذل الجهود لتغيير الوضع لقد حان الوقت.
من كتاب خيانة المثقفين لإدوارد سعيد