يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 49
حوارات مع جرجيس فتح الله
الكيلاني ومذابح آب
عرفت الوزارة الاولى التي شكلها بالوزارة القومية وفيها اعطى الكيلاني الضوء الاخضر لتلك المذبحة التي نفذها بكر صدقي العسكري وراح ضحيتها ثلاثمائة وسبعة عشر آشورياً في قرية (سميل)من اعمال مدينة (دهوك) وبضعة وعشرين اقتيدوا من سجن المدينة ليقتلوا بظاهرها فضلاً عن أكثر من ثلاثمائة آخرين استسلموا للجيش في عاب جبل (بيخير) القريب من (فيشخابور) فقتلوا فوراً
س:نوهتم بهذا في حديثكم الماضي عن نوري السعيد أما يكون من المفيد الادلاء ببعض التفاصيل ؟
في الواقع هذا جزء هام من حديثي عن الكيلاني لكن ما أظن المقام يتسع لرواية شمولية وسأحول الاختصار والتركيز
شرد الآشوريون القانطون في حكاري بسبب انتقاضهم على الحكومة العثمانية وربط حظوظهم مع الحلفاء بنتيجة الحرب ووصل المتبقي منهم بعد اهوال وبلايا العراق واسكنوا مؤقتاً في معسكر بقرب مدينة بعقوبة في العراق واستخدمت سلطات الاحتلال رجالهم في وحدات عسكرية بقيادة بريطانيين.
فيما عرف (بالليفي) كان هؤلاء عراقيين بحكم عثمانيتهم مثل سائر سكان العراق وبموجب معاهدة لوزان 1923وقانون الجنسية العراقي الصادر في 1924 وبدأت محاولات بريطانية عراقية لاسكانهم بيجاد اراض لهمم لكن منذ صولهم عوملوا معاملة دخلاء وشجعت الحكومات هذه النظرة وكانوا أناسآ جبليين يعيشون بعقلية القرون الوسطى تفشت فيهم الامية وركن الزعماء منهم وقلة متعلمة فيهم الى وعود غامضة من الانكليز بالحماية واعتقد زعمائهم هؤلاء أن الاحتلال البريطاني للعراق انما وجد ليبقى لكن تبين لهم في عام 1932 ان الانتداب سيزول وان البريطانيين سينسحبون ويسلمون الحكم لدولة عراقية مستقلة ومشكلة استيطانهم لم تحل بعد فشاه الخوف على مستقبلهم وعدموا في ذلك الوقت العصيب الناصح الامين وعلى رأسهم اذ ذاك رئيس روحاني (بطريرك) غير محبوب وفي مقتبل الشباب استسلم لذوي الرؤوس الحارة وقيصري العقل فدفعوه الى المطالبة بما سموة “بالسلطة الزمنية ”
لنفسة على شعبة فضلاً عن السلطة الروحية وقد تبين من الرسائل المتبادلة بينه وبين حكمت سليمان (وزير الداخلية) والكيلاني (رئيس الوزراء) عجزه عن التعريف وتحديد مايقصده بالسلطة “الزمنية” وفهم الاثنان –او ربما شاءا أن يفسرا أقوالة انه يطلب المشاركة بالحكم فاحتجزاه في بغداد وارادا أرغامه على توقيع تعهد مهين وانتهز قصيرو العقول وذوو الرؤوس الحارة فرصتهم لافتعال المزيد من الضجة فبدأوا بتظاهرات عسكرية حمقاء في ربوع جبال كوردستان وانتهز ذوو الرؤوس الحارة من اعضاء الحكومة فرصة غياب الملك فيصل والوزراء (العقلاء) نوري السعيد والهاشمي ورستم حيدر في الخارج فوضعوا لبخظة الدموية التي عرفت في الحوليات العراقية ب (عملية تأديب الآشوريين)
قررت سلطة الانتداب تجنيد الآشوريين في (الليفي)وهي وحدات شكلت محلياً سداً لنقص في القوات البريطانية بسبب تسريحها بعد الحرب وبسبب ما
تكلف من النفقات وهو ينفي بالطبع زعماً تضخم لديهم بأنهم حلفاء للبريطانيين كما كانو يحلو للمتحمسين لهم أن يتغنوا به وان يرسخوه في اذهانهم للسبب البسيط وهو انهم لم يحاربوا كوحدة ضاربة الى جانب الفحلفاء في أي عملية حربية ضد العثمانيين
وفي حدود عام 1927 اعلنت الحكومة البريطانية عن سياستها في العراق باعتزامها انهاء الانتداب وادرك العراقيون أن بلادهم ستتمتع بالاستقلال في شهر تشرين الثاني العام 1932 عرا الآشوريين بغتة حاله من الاضطراب والقلق والهياج أن الانكليز سيخلون عنهم مساله استقرارهم لم تحل بعد وهي من بين المسائل الكبرى التي اعترضت السياسة العراقية وكان هنالك حوالي عشرة آلاف من افراد الليفي الذين سرحوا تباعاً وكل فرد منهم كان يعطي بندقية حديثة الطراز مع مائتي اطلاقة تعويضاً عن السلاح الذي جلبة معه مفهوم حاجتهم للدفاع عن انفسهم فكل العشائر في كوردستان كان مسلحاً
لم يكن في العراق منطقة موحدة مناسبة لاسكان اربعين الفآ الا بأخلائها من سكانها الاصليين ولم يكن بوسع أيه حكومة عراقية ترحيل السكان الاصليين قسراً محباة للمسيحين
وذر قرن المتاعب في عز الصيف العام 14933 عندما قررت حكومة الرشيد عالي أن تفتح عد الاستقلال بتلقين الآشوريين درساً في مايمكن أن يمتد الية باع الحكومة لتختم بمذبحة شنعاء لاضرورة تدعو اليها باستغلال غياب الملك مع ثلاثة من اقوى الوزراء وابعدهم نظراً وفي بغداد احتجز حكمت سليمان وزير الداخلية بطريركهك (مار شمعون ايشاي) محولاً ارغامة على توقيع تعهد يتنازل فيه عن دعواه بالسلطة الزمنية وتما كان أحد انصاره في احد انحاء دهوك (مالك ياقو بن مالك اسماعيل) من قبيلة التياري ومن سكنة قريه سميل وهو جندي كفوء لكنة احمق اهوج قصير النظر سياسياً يقوم بمظاهرة سلمية مسلحة مع بعض اتباعه الامر الذي برر للحكومة ان تعلن الاعتزام بالقيام بمناورات عسكرية في المنطقة وهو وإجراء فيه حمق وقصر نظر ايضاً ان لم يكن مبيتاً وينطوي على نيه سوء
وكذب الآشوري (ياقو) عندما بث بين بني قومه القلقين على مستقبلهم والناقمين على سياسة الاسكان نبأ مختلفاً مفاده بأنه كان على اتصال بالسلطات الفرنسية في سورية وقد بدأت استعداداتها لاسكانهم سورية بشروط كريمة جداً ونجحت اكذوبته في حمل عدد من الذكور الآشوريين الذين لايملكون مستقراً بعد أن يتبعوه الى سوريا “لرؤية الأراضي التي خصصت لهم ” فتركوا عائلاتهم وراءهم واكتملوا الفاً وخمسمائة مسلح عند وصولهم الاراضي السورية وهناك تبين لهم خدعه (ياقو) اذا بادر الفرنسيون بنزع سلاحهم ووضعهم في معسكر ثم امروهم بالعودة من حيث اتوا وسلموا لهم سلاحهم وفي محاولة عبورهم النهر اصطدموا بقطعات مخندقة أمامهم من الجيش العراقي في نقطة (الديره بون) القريبة من جرى فيشخابور فنشب قتال صرع فيه ضابط عراقي وبضعة عشر جدياً وسقط عدد مماثل من الآشوريين الذي انكفأوا على اعقابهم ليجدوا لأنفسهم نقطة عبور اخرى فنجحوا وانتشروا دون نظام في شعاب جبل (بيخير) كل يريد الوصول الى بيته وعياله
كان الملك فيصل ونوري السعيد يعلمان الطبع الحاد في الكيلاني وبما يدبرة فراحا يبعثان بالبرقيات النذرة المحذرة والمناشدة بضبط النفس ومعالجة الامر بالحكمة وبضرورة اخلاء سبيل البطريرك واعادته الى الموصل من دون الحصول على نتيجة اذ كان الكيلاني يكذب في برقيته الجوابية متظاهراً بأنه يعمل بالشكل الذي رسمه الملك في معالجه الأمر في حين كان يهيئ لعملية “التأديب” وشحن الرأي العام ونددت الصحافة بأعمال هؤلاء الدخلاء الاجرامية
ونشرت اكاذيب عن الفظائع التي ارتكبها الآشوريون في معركة (الديره بون)
وتبارى نواب المجلس في القاء الخطب النارية مطالبين باستئصال الدخلاء المجرمين وشعرت السفارة البريطانية بالخطر فطلبت من الكيلاني بالحاح نقل (العقيد بكر صدقي ) قائد القطعات وآمر المنطقة العسكرية الشمالية فلم يفعل هذا العسكري كان جزءا من الخطة المدبرة
ووقع العائدون من الآشوريين في جبل بيخير بأيدي المفارز العسكرية فكانت تفتك بهم فور استسلامهم وقد قتل منهم ماناهز الثلاثمائة والخمسين ونجح الباقون في العودة الى بيوتهم
والأغلبية المواليه للحكومة ارادت أن تشعر السلطة بأنها بعيدة عن (ياقو)وجماعته ورأى بعضهم الاسلم أن ينحدروا الى سميل ودهك لاحتماء بالادارة هناك وتحت ظل العلم العراقي وفي سميل اجتمع نحو اربعمائة وخمسون معظمهم من الرجال وفي صباح يوم 10 من آب 1933اقبل عليهم (عبد الحميد الدبوني)قائمقام زاخو ونصحهم بتسليم اسلحتهم له تفادياً لاي اصطدام مع دوريات الجيش المسلحة التي كانت تجوب الطريق بين الموصل ودهوك فنزلوا عنها طواعية ثم عاد في اليوم التالي يجمع اسلحه القادمين الجدد للمأساة باتقان قد كمل قد يتبادر الى الذهن أن المذبحة لم تكن مخططة من بغداد سلفاً وان وجود هؤلاء الآشوريين العزل تحت رحمه المنتقمين كانت فرصة لاتعوض بعد القتال في (الديرة بون)
بدأت المذبحة بفصل النساء والاطفال عن الرجال ثم قامت فصيلة من الجيش بقيادة الملازم اسماعيل عباوي (توحله) بالمذبحة الكبرى في صباح يوم 12آب وصرع قسم برصاص البندقيات والمسدسات ونيران الرشاش وقضى على فريق صرباً بأخمص البندقيات وطعناً بالحراب وحصد الباقون بصليات الرشاش وهم داخل المنازل أو عند محاولتهم الخروج وحاول عدد من خلال ذلك النجاة بارتداء ثياب النساء الا أن عريف شرطة المخفر اهتم بالتنقيب عنهم من كوخ الى كوخ وأرغمهم على الخروج ليقتلوا بأيدي الجنود واعتدي على اعراض بعض النسوة وارغمن على الخروج لغسل الارضية من الدماء ولم يقم دليل على وقوع مذبحة بين النساء لكن عدداً منهن لا يتجاوز السبع ذهبن ضحية لرفضهن ترك ازواجهن واحصى عدد القتلى بثلاثمائة وسبعه عشر ثم وجرياً على التقاليد العثمانية الاصلية حت السلطة افراد العشائر من شر وغيرهم على عمليات النهب والتدمير فقاموا بمهماتهم خير قيام وكتب (حكمت سليمان) وزير الداخلية للكيلاني يقول بعد ان لم يعد بالامكان التستر على الجريمة أن صداماً وقع بين الآشوريين وافراد العشائر فسقط قتلى من الطرفين!!
وحفر الجنود قبراً جماعياً أشبه بالخندق وقذفت اليه الجثث الا انها لم توار التراب تماماً وفي 19 منه وجد ضابط بريطاني عدداً من القتلى داخل اكواخ القرية فات امرها الجنود وسحب أكثر من عشرين من سجن دهوك ليقتلوا في ظاهر المدينة وكان بينهم كهنة
ولفظ فيصل الاول آخر انفاسة وهو يجهل ما ارتكبه جيشه من فظائع في سميل وما قدمت عليه الحكومة رشيد عالي فقد حرص هذا على أن لا يخبره بما حصل
عندما ذاع امر المذبحة وتصدرت انباؤه بتفاصيلها صحف العالم اضطرت الحكومة العراقية الى الاعتراف بما حصل عن لسان رئيس وفدها الى العصبة الامم حين بحثت القضية امام مجلس العصبة :قال ياسين الهاشمي رئيس الوفد وأنا انقلها من دفاتري بالحرف الواحد
“ان الحكومة العراقية لاتريد التستر على الأعمال الاجرامية التي ارتكبت
وهي تستنكرها باخلاص وحرارة لاتقل عن استنكار الحكومات الممثلة في المجلس وانن نعد وعداً قاطعا بالتحقيق وانزال العقاب بالفاعلين
ولم يقع التحقيق أو ينزل عقاب باحد بل كوفئ بكر صدقي يترقيه ووسام وجاء الكيلاني من بغداد ومعه الامير غازي نائب ابية لاستعراض الجيش ثم اختراق شوارع العاصمة بسيارة وبكر صدقي عن يمينة يلتقي تحايا الجماهير والتي احتشدت للمشاركة بأفراح النصر على الآشوريين الوف على الوف من رجال ونساء في الشوارع والميادين ناءت بثقلهم سطوح المنازل .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012