ثلاثية النسق المضمر في (غرقى في سراب)

عبد علي حسن

تتهيكل قصيدة )غرقى في سراب( الطويلة للشاعر عباس السلامي الصادرة عن دار النخبة /الجيزة /مصر ط اولى 2017 ، وهي بمجموع مقاطعها تكون المجموعة الشعرية الثامنة للشاعر السلامي ، اذ تلتئم هذه المقاطع في وحدة موضوعية وعضوية ينتظمها نسق ثقافي واحد يتهيكل على واحد من الأمثال الشعبية المهمة التي انتجتها البنية الثقافية للمجتمع العراقي )لاتلوم الغرقان لو تشبث بقشة(الذي ينتج بنية اليأس الذي يصل بالمرء الى التمسك والتشبث بأي شيء حتى بالضعيف للخلاص من الوضع الميؤوس منه ، وتجعل القصيدة هذا المثل ليكون دالا لمدلول يستمد من حوادث الغرق التي تعرضت لها سفن المهاجرين بطريق غير شرعي عبر البحر الى اليونان ودول أخرى — خاصة المهاجرين السوريين والعراقيين — الذين وجدوا في الهجرة خلاص من وضع استثنائي يتعرض فيه وجودهم البشري الى تهديد دائم وانتهاكات جعلت البقاء في بلدانهم أمرا مستحيلا بعد تعرض هذه المجتمعات الى حروب طائفية ودينية وإثنية وقومية وضعتها على حافة الانهيار والتمزق والتشتت ، وفي وضع كهذا لم يجد المهاجرون سبيلا الى الخروج من هذا المأزق الوجودي سوى الهجرة الشرعية وغير الشرعية ، وازاء ذلك فإن النص الشعري بستخلص من المثل المذكور ثلاثية دلالية مكونة لبنية اليأس ، وهي البحر/ الغرقى / القشة ، كما وتشكل اجزاء هذه الثلاثية عناصرا لبنى متحولة شكلت انساقا ثقافية انتجتها البنى الاجتماعية والسياسيةلهذه المجتمعات ، بدءا من العنوان الإخباري الذي توصل الى نتيجة مسبقة عبر تأكيده على مكون من المكونات الثلاثة التي أشرنا اليها وهو ( الغرقى) الذين وضعهم العنوان في منطقة وهمية وهي (السراب) لتكريس فداحة الغرق في لجة بحر لا اول له ولا آخر ، ذلك هو بحر الحروب البشرية على اختلاف انواعها واشكالها وماتؤول اليه من خسائر بشرية ومادية ، كما وتشكل البنية الدلالية للعنوان منطقة اشعاع تكشف عن الأنساق التي تضمرها المقاطع الشعرية القصيرة والوامضة التي كونت القصيدة الأم ، فهذه القصائد القصيرة الوامضة قد احتفظت باستقلاليتها الدلالية كنص محكم البناء ومن جانب آخر فإنها تسهم في تكريس موجهات النص كدلالة كلية عبر عنوان الكتاب ، كما ان جميع هذه القصائد القصيرة توجه من قبل النسق المضمر للمثل الشعبي الراكز في المخيال الجمعي للمجتمع العراقي ، اذ جعل الشاعر الاشتغال على النسق المضمر لهذا المثل ذريعة للخروج بدلالات انسانية جديدة ، نقرأ في القصيدة الأولى:–
( من على اليابسة..
تحمل القشة المغفلين
لتفرغهم غرقى في عرض البحر
وتعود ثانية الى اليابسة
هكذا
في مشهد يتكرر… النص ص7
فالنص وعبر تكرار مشهدية نقل القشة / السفينة للأشخاص من اليابسة الى عرض البحر وافراغهم فيه ليغرقوا انما يصفهم ب (المغفلين) لأنهم يدركوا تماما ماسيحصل لهم وماسيحصل للآخرين الذين ينتظرون دورهم في الابحار ، ولعل هذه المعرفة بهذا المصير مع اصرارهم على الابحار يعد استغفالا لهم ، ولكن بنية اليأس التي تجتاح وجودهم تدفعهم الى القبول بأي حل او وسيلة تنجيهم من الوضع اللا انساني الذي يعيشونه في بلدانهم الغارقة في اتون حرب الطوائف ، ومن جهة أخرى فإن النص يكشف عن اللعبة الاستغفالية التي يمارسها تجار التهجير من خلال تكرار مشهد افراغ المهاجرين في البحر غرقى لتعود القشة / السفينة ممتلئة بمهاجرين آخرين يواجهون ذات المصير الذي لقيه الذين قبلهم وهو الغرق ، على ان القصيدة التالية تفترض وضعا آخر يكشف عن ضرورة اتخاذ موقف مغاير لموقف المهاجرين الذين يلجأون الى الهجرة عبر البحر والمساهمة في لعبة الغرق التي يتعرضون لها ، اذ نقرأ :–( من يبحر
وهو يعتلي مركب الوعي
لا حاجة له بالقش … النص ص7) فالنص هنا يطرح موقفا معاكسا بل ومتضادا لموقف الاستغفال وهو (اعتلاء مركب الوعي) الوعي باللعبة– لعبة اعتلاء القشة — فالنص استبدل القشة بالمركب الذي هو أكثر أمانا واستقرارا وقوة من القشة الهشة الضعيفة ، وينتج هذا النص بنية الارادة التي شكلتهاعناصر المركب + الوعي ، فمن يمتلك هذه الارادة فلا حاجة له للقشة ، والوعي هنا يستدعي موقفا مضادا للهجرة ، ففي نص آخر يؤكد هذا الموقف :–
( معتقلو القشة
هم مجرد أناس بلا وعي
سخروا للغرق…النص ص 104)
وفي نص آخر :–
( لو انتبهوا قليلا
لأجلوا غرقهم
ولربما عرفوا اللعبة لاحقا … النص ص 103)
او :– ( زوروا لهم القش
زوروا لهم البحر
وأشاروا عليهم
ان اعبروا الضفة الثانية .. النص ص 101)
ففي النصوص السالفة تتبدى بنية الاستغفال والخداع مقابل بنية قلة الوعي او عدمه باللعبة التي يمارسها سماسرة سفن المهاجرين الذين يؤكدون على سلامة وصول المهاجرين الى (الضفة الثانية ) عبر تزوير ادعاءاتهم بسلامة الوصول من خلال تصوير متانة (القشة) وسلامة البحر وامكانية وسهولة الابحار ، الأمر الذي يؤدي الى استغفال المهاجرين وخلق حالة الإطمئنان والتأكد من سلامة الوصول الى ( الضفة الثانية) الا ان أمرا مثل ذلك لم يحصل ، اذ أن النصوص تذهب الى
تأكيد حالة تعرض المهاجرين للغرق .
(الانساق المضمرة )

وتكشف النصوص عن المعادلة الصعبة بين مستثمري القشة والغرقى ، وتتخذ هذه المعادلة صفة الاستغلال ، سلطة / متسلط عليه ،
فنقرأ :–
( مستثمرو القشة
قلة
والغرقى كثر
معادلة لايجروء الزمن على تغييرها …..النص ص80)
و ( لم يولد بعد
آخر غرقى القشة …النص ص80)
و ( في نشأتها
القشة كانت يابسة
لكنها اينعت.. فيما بعد..بالغرقى …..النص 81)
فبنية الصراع التي شكل مستثمرو القشة والغرقى طرفاها بائنة ، كما تؤكد النصوص السالفة على التناقض والصراع الدائم الأزلي بين المالك والمملوك بإختلاف الأشكال التي يستدعيها التحول في ظروف هذا الصراع ومضامينه ، الا ان النشأة واحدة اعني ظهور سلطة المالك او المستثمر المقترنة بظهور الطرف الطرف الثاني / المملوك والمعبر عنه في النصوص ب )الغرقى( المستغلين والمستغفلين دوما ، الا ان النص التالي يضع مقترحا للوصول الى الضفة الثانية دون الحاجة الى القشة ، أي دون المرور بدورة الصراع :–
) لو انتبهوا قليلا
لأجلوا غرقهم
ولربما عرفوا اللعبة لاحقا …النص ص 103)
و ) لا للقش
هذا هو شعار المبحرين الى الضوء ….النص ص 92)
و) كان غرقهم حتميا
لأنهم ما وضعوا
الا القشة نصب اعينهم ! …النص ص83)
و ) لامكان للقشة
في المياه التي تتلألأ بالضوء
مستقر القشة في المياه المعتمة …النص 81)
فالنصوص السابقة تجترح بنية مضادة للقشة بعدها وسيلة انقاذ وهمية بل وضعيفة ، وتخلق ثنائية الضوء / العتمة ، لترتبط القشة بالعتمة فيما ترتبط الارادة والوعي والانتباه بالضوء ، فاللجوء الى القشة بعدها السبيل الأضعف الى الخلاص من المستغلين هو سبيل لايؤدي الى الغرق / الموت والضياع ، وهو ماتريده طبقة المستغلين التي اوجدت هذا السبيل او الطريقة التي تتخلص فيها من الذين يريدون النجاة عبر انتقالهم الى الضفة الاخرى ، الا ان النصوص تعد ذلك استدراجا لهم واستغفالا ينساقون له عبر ارادة المستغلين انفسهم ، بمعنى آخر فإن هذه الاستجاية من قبل طالبي النجاة تعد اعانة للمستغلين لمسك زمام الأمور والسيطرة والتملك ، واذ ارتبطت القشة بالعتمة دلالة على التيه فإن الارادة والانتباه الى محاولات المستغلين ومقاومتهم قد ارتبطت بالضوء دلالة السبيل الواضح بالكشف عن أحابيل المستغلين والتصدي لها وعدم الانصياع الى أكاذيبهم ، وفي الوقت الذي يعم الضوء / وضوح الهدف فإن القشة لن تجد لها مكانا لتكون وسيلة النجاة الأكذوبة التي يصنعها المستغلون ، فالنصوص الآنفة تطالب وتحذر من الالتفات الى الأكاذيب والتمسك بالضوء/ الافكار التي تمكن الناس من الوصول الى الضفة الثانية / النجاة عبر قوة الإرادة والعزم على الاعتماد على الذات لتحديد هدفها وسبل نجاتها في عالم يشهد صراعا ضاريا بين المستغلين ( بكسر الغين) والمستغلين ( بفتح الغين ،
لقد تمكن الشاعر عباس السلامي في تجربته الجديدة هذه عبر (غرقى في سراب ) ان يلج بابا قليلة الحصول في الشعر ، بينما كثيرة الحصول في السرد حتى سميت ب(قصة القصص) ، اذ احتفظت القصائد القصيرة باستقلاليتها الدلالية وفي ذات الوقت شكلت هذه الدلالات الجزئية الدلالة الكلية ل (قصيدة القصائد) غرقى في سراب ان جاز لنا التعبير ، محققة هيمنة الوظيفتين الانفعالية/ الشعرية والافهامية / الخطابية تبعا لما تستدعية بنائية القصيدة وفعلها الدلالي .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة