قبل أن يتناقل العرب مفردة الإرهاب، ويتصالحون على معناها، الذي ذهب إلى جماعات دينية متطرفة، كان ثمة من يستخدمها في غير هذا المنحى، ويسير بها على غير هذا القصد. وهو معذور في ذلك، لأنها لم تكن قد أخذت مفهومها الاصطلاحي بعد!
في حينه لم تكن هذه المفردة مرعبة إلى الحد الذي هي عليه الآن. حتى أن أحد أهم رموز الحداثة العربية، وهو محمد الماغوط، نوه في يوم من الأيام، أن عقد الخمسينات من القرن الماضي شهد طفولة الإرهاب العربي، أي الحكومات الوطنية التي نشأت في حقبة ما بعد الاستعمار!
والواقع أن الثقافة العربية قد تعرضت آنذاك إلى عداء حقيقي من أشخاص ومؤسسات مثلوا ما سمي في حينه بالغزو الثقافي. وهؤلاء «الغزاة» كانوا يهدفون إلى الالتحاق بركب الحضارة الغربية عن طريق القطيعة مع التراث، والاستجابة للمتغيرات التي طرأت على المجتمعات العربية، بالانفتاح على العالم الخارجي، والتضامن مع الشعوب المقهورة، ودخول التقنيات الغربية، وما رافق ذلك من العادات والثقافات والأفكار والأيديولوجيات. وهذا هو مغزى ما أطلق عليه اسم الغزو الثقافي.
أما ما كان يروج له السواد الأعظم من الكتاب والشعراء والفنانين والسياسيين، فهو التمسك بالهوية العربية، واستعادة خصائصها التاريخية والدينية واللغوية. وكان هناك جيل من القوميين العرب الذين وضعوا اللغة والتاريخ في مقدمة عوامل النهضة، بعد انتهاء عصر الاستعمار. وحاولوا عبر التعليم، والنشر، والمؤتمرات، ووسائل الإعلام، التأكيد على أن ليس أمام العرب إلا استعادة هويتهم الخاصة أمام حركات التغريب والتشويه والاستغلال والتبعية!
هؤلاء وصموا بالإرهاب لأنهم كانوا التيار السائد في المجتمعات العربية، وهم الذين تولوا السلطة في بلدانهم في ما بعد. ومن الطبيعي أن يلجأ خصومهم إلى هذا التوصيف بعد أن أبعدوا، وحوربوا، وعزلوا عن الحياة اليومية في ذلك الحين.
لاشك أن هذه النعوت كانت ظالمة وقاسية، وافتقد مطلقوها البصر والبصيرة. فلم يكن من المقبول في تلك الحقبة أن يدير العرب ظهرهم للثقافة التي حررتهم من التبعية للأجنبي، وأوحت لهم بالمطالبة بالاستقلال، وشجعتهم على المناداة بالحرية. وهي ثقافة قابلة للطرح والإضافة والتطوير، مثل غيرها من ثقافات العالم. وليس من العدل أن توصم بالإرهاب لأن تيارات منغلقة منها اتسمت بالتشدد، في رد فعل طبيعي لما تعرضت له من إذلال.
وللأسف فإن الفريقين اتصفا بالغوغائية في تلك الأيام، لأن أدوات المواجهة لديهما لم تكن قد نضجت بعد. وإذا كانا قد أطلقا مفردة الإرهاب على بعضهما البعض، وتنازعا في ما بينهما على الصدارة، فإنهما تراجعا في ما بعد، وأوشكا على المصالحة، حينما أدركا أن الإرهاب شئ مختلف، وخطير. وأن الثقافة العربية قد حوت شذرات قليلة منه، لكنها شذرات قابلة للنقض، والتعديل، والتغيير، لأنها لا تمس الجوهر الذي انبثقت عنه في يوم من الأيام.
محمد زكي ابراهيـم
الإرهاب .. العربي!
التعليقات مغلقة