جاي فيرهوفشتات
يعتمد الأمن الأوروبي في الأساس على حلف شمال الأطلسي ومبدأ الدفاع المشترك، وعلى التعاون بين أجهزة الاستخبارات الوطنية التي تعمل على منع العنف ضد الناس والأصول الوطنية. ولكن في عصر حيث أصبحت التهديدات تأتي من متطرفين محليين فضلا عن قوى فاعلة تابعة لدول أو غير تابعة لدول بعينها تسعى إلى تقويض المؤسسات الديمقراطية، فإن كل هذا لم يعد كافيا.
في السنوات الأخيرة، عمل تبادل المعلومات الاستخبارية على إعاقة مخططات إرهابية لا حصر لها من قِبَل متطرفين إسلاميين وجماعات يمينية متطرفة. لكن الفشل في تبادل المعلومات عبر الحدود أسفر أيضا عن وقوع هجمات مروعة في بروكسل، ومانشستر، ومدن أخرى.
بعد طول تأخير، بدأت أجهزة الأمن الأوروبية أيضا التركيز على التهديد الذي تفرضه روسيا على الديمقراطية الليبرالية. على مدار الدورات الانتخابية الأخيرة، أثبت الكرملين نجاحه في الإضرار بالعملية الديمقراطية وتلويث الخطاب العام. وما يزيد الطين بلة أن صعود الشعبويين من أقصى اليمين في بلدان رئيسة يعمل على تقويض الجهاز الأمني المطلوب لمواجهة العدوان الروسي. ويتطلب تبادل المعلومات الثقة المتبادلة، لكن التحالفات التي وفرت ذات يوم الأساس للثقة أصبحت الآن خاضعة لضغوط متزايدة.
ويتضح هذا بجلاء في شتى أنحاء أوروبا. ففي ألمانيا، اقترح رئيس الاستخبارات السابق مؤخرا على صحيفة بيلد أن أجهزة الاستخبارات في النمسا ليست محل ثقة ما دام حزب الحرية اليميني في النمسا شريكا في التحالف الحاكم. ففي شهر فبراير/شباط، اتخذ وزير الداخلية من حزب الحرية في النمسا قرارا غير اعتيادي بإصدار الأوامر بشن غارات شرطية على وكالة الاستخبارات المحلية الرئيسة في النمسا، وإزالة ملفات ومعلومات حساسة.
وأبرم حزب الحرية في النمسا «اتفاقية تعاون» مع حزب روسيا المتحدة بقيادة الرئيس الروسي فلاديمير بوتن منذ عام 2016. الأمر الأكثر إثارة للقلق والانزعاج أن هذه الاتفاقية تقضي بتبادل المعلومات بشأن قضايا تتعلق بالعلاقات الثنائية والدولية. وإذا كان هناك من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أن المعلومات تنقل من فيينا إلى موسكو، فربما يُقطَع عن النمسا كميات ضخمة من البيانات المطلوبة للتصدي للتطرف والإرهاب. ومع ذلك فإن هذا من شأنه أن يقوض أمن جميع الأوروبيين.
في إيطاليا، أبرم حزب الرابطة اليميني المتطرف، الذي يحكم ضمن ائتلاف مع حركة النجوم الخمسة، اتفاقية تعاون أيضا مع روسيا المتحدة. كما يعارض زعيم الرابطة ووزير الداخلية ونائب رئيس الوزراء ماتيو سالفيني، العقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي ضد روسيا، كما جرى تصويره وهو يرتدي قمصان بوتن، وهو زائر منتظم لموسكو. في المجر، حيث رحب رئيس الوزراء فيكتور أوربان بحرارة بكل من سالفيني ومرشد «اليمين البديل» الأميركي ستيفن بانون، أوردت التقارير أن أجهزة الاستخبارات الروسية حافظت على علاقات وثيقة مع مجموعات اليمين المتطرف لسنوات. وعلاوة على ذلك، يسيطر أوربان وحزبه فيدسز على أغلب وسائل الإعلام، التي تنشر دون تمييز أو انتقاد دعاية الدولة الروسية. وأخيرا، في بولندا، جرى اتهام أنطوني ماسيريفيتش، الذي أطيح به من منصبه وزيرا للدفاع في يناير/كانون الثاني الماضي، بالحفاظ على علاقات مع مجموعات يمينية متطرفة موالية للكرملين ورجل العصابات الروسي سيميون موجيليفيتش. في أثناء توليه منصبه، تسببت محاولات ماسيريفيتش لإعادة تنظيم الجيش ووزارة الدفاع في دفع حلفاء بولندا في حلف شمال الأطلسي إلى التساؤل بشأن إمكانية الاعتماد على بولندا في مواجهة روسيا.
في كل هذه الأمثلة، لا يكتفي الشعبويون من اليمن المتطرف بإحداث احتكاك بين أجهزة الاستخبارات الوطنية فحسب، بل ويعملون بنجاح أيضا على تسييس المؤسسات والأدوات القانونية التي يعتمد عليها الأمن الأوروبي.
على سبيل المثال، كما يعمد الكرملين إلى تسييس الإنتربول (البوليس الدولي) بهدف مضايقة خصومه السياسيين في الخارج، استخدم حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا حق النقض (الفيتو) كدولة عضو في الاتحاد الأوروبي لمنع واحدة من منتقديه، الناشطة الحقوقية الأوكرانية لودميلا كوزلوفسكا، من دخول منطقة شنجن في الاتحاد الأوروبي.
من العبث أن نعتقد أن ناشطة في مجال حقوق الإنسان يمكن منعها من دخول الاتحاد الأوروبي بسبب انتقاد إحدى الحكومات في حين يُسمَح للقوميين اليمينيين المتطرفين من ذوي البشرة البيضاء من أمثال بانون بالتسكع بحرية في مختلف أنحاء القارة يحرضون على التطرف والخوف من الإسلام. ويتعين على سلطات الاتحاد الأوروبي أن تتحقق من دوافع الحكومة البولندية لضمان عدم استغلال البنية الأمنية في الاتحاد الأوروبي لخدمة أغراض سياسية.
منذ غزو شرق أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم في مارس/آذار 2014، شن بوتن حربا هجين معقدة ضد الغرب، فجمع بين حرب المعلومات والحرب السيبرانية وبين العمليات الخاصة النشطة لعرقلة المؤسسات الأوروبية. ولتحقيق هذه الغاية، يدعم الكرملين بنشاط وقوة الحركات والأحزاب السياسية الشعبوية الأوروبية وجهودها الرامية إلى استغلال التوترات التاريخية وخلق الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي.
تصب مثل هذه الانقسامات في مصلحة بوتن مباشرة. فالغرب المنقسم الذي يعتمد بشكل أقل على التعاون الاستخباراتي يتعرض لمخاطر أعظم كثيرا ويصبح أكثر ضعفا في مواجهة التطرف الداخلي وانعدام الثقة في المؤسسات الديمقراطية. ولا يرغب بوتن في شيء أكثر من تحويل الاتحاد الأوروبي إلى جحيم مقيم.
كيف ينبغي أن يكون رد الساسة والمواطنين المهتمين إذن؟ بادئ ذي بدء، من الواضح أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى إجراء تحقيق شامل في التدخل الروسي في الشؤون الأوروبية، على غرار التحقيق الذي يجريه المستشار الخاص روبرت ميولر في الولايات المتحدة. ولابد من تعقب وفضح الروس الذين يمولون الجماعات الشعبوية الأوروبية، ولابد من وقف عمليات الحرب الروسية الهجين داخل الاتحاد الأوروبي.
علاوة على ذلك، لابد أن يُمنَح اليوروبول الصلاحيات التي يحتاج إليها لملاحقة أولئك الذين يقوضون المصالح الأوروبية. كما تحتاج أوروبا إلى مكتب تحقيقات فيدرالي خاص بها ــ وكالة لإنفاذ القانون وجمع المعلومات المضادة قادرة على العمل عبر الحدود إلى جانب السلطات على المستوى الوطني.
ولكن لا شيء يمكن أن يحل محل المواطنين المطلعين على الحقائق. ففي أيام الديمقراطية المظلمة هذه، يجب علينا جميعا أن نطالب حكوماتنا بالخضوع للمساءلة، وأن نصر على صيانة حكم القانون ومؤسساتنا العزيزة.
ترجمة: إبراهيم محمد علي
جاي فيرهوفشتات رئيس وزراء بلجيكا الأسبق، ورئيس تحالف مجموعة الليبراليين والديمقراطيين من أجل أوروبا في البرلمان الأوروبي.
بروجيكت