يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 42
حوارات مع جرجيس فتح الله*
ازدواجية قاسم
لا شك في ان محاولة إخفاء هاتين الشخصيتين أي الازدواجية في طبع قاسم او دمجها قد كلفه كثيرا من العناء وكانت وسيلته الظاهرة كما أرى هي اعتماده على إحلال عامل الموازنة فيما بينها لكن ما تم هذا العامل الا وانقلب عليه فبدلا من ان ينجح في تغطية تلك الازدواجية وجدته يحفر اخدودا عميقا بين الشخصيتين لا تنفع فيه محاولة تغطية وهناك امثلة عدة واظهرها للمؤرخين والكتاب موقفه من الأحزاب فرقم اثنان فيه اجازها وقد غلبت إرادة هذا الرقم بعلة انها ستكون طوع بنانه الا ان قاسما رقم واحد لم يتوان لحظة واحدة عن كيل الضربات لها وتمزيقها على النحو المعروف.
س: كان الشيوعيون واليسار عامة في حينه يلهج بديمقراطية قاسم وقد قرأنا في ادبياتهم وقتذاك بأنه ديمقراطي النزعة او الاتجاه
ربما تمسكوا بذلك الى حين والواقع هو ان اليسار والشيوعيين كانوا يقومون فيه الشخصية الثانية وما اظنهم شعروا بوطأة تلك الازدواجية فيه وتحديد بالوجه الاخر الذي سميناه قاسم رقم واحد او ربما شعر بعضهم الا انهم على كل حال كانوا قد منحوه هذا اللقب وفقا للتفسير الخاص بهم للديمقراطية ثم لماذا لا نختصر الطريق وندع قاسما نفسه يفسر لنا وبلسانه مفهومه للديمقراطية طبعا اقصد قاسم رقم اثنان هنا.
قال:في خطبته بتاريخ29 اذار 1961:
” اننا لو كنا دولة ذنبا للدول الأخرى لاحتقرتنا هذه الدول ولكننا دولة حرة ديمقراطية حرة صديقة للعالم الصديق اننا دولة محايدة مسالمة لا تعتدي على احد اننا دولة نحب السلم ونحب ان نعيش بطمأنينة وامن وازدهار في بلدها ولا تعتدي على الاخرين اننا دولة ديمقراطية حرة تضمن مصالح شعبها ومعنى الديمقراطية ان الدولة تسير بالعدل والاستقامة والنبل ولا تعتدي على الاخرين”.
وعن المبادئ الديمقراطية كما يراها رقم اثنان أيضا:
في كل دولة تنبثق من حاجتها فكل دولة في العالم تقدر المقدار الذي يردها في الثورة وتقدر كذلك مقدار نفوس شعبها واحتياجاتهم واحتياج الفرد وسد حاجته واحتياج المجموع وسد حاجته واحتياج الدولة وسد حاجتها وعلى هذا الأساس تنظم علاقاتها وتنظم مبادئها وتسير وفق أسس ومبادئ تستوحيها من مصلحة وطنها هي ان نفوسها كثيرة في اغلب الأحيان ومواردها قليلة ولذلك فان تلك المبادئ تستهدف منها ان لا يقضى على احد جوعا او عريا او يبقى جاهلا عاجلا هذا هو القصد من تلك المبادئ ولتنظيم سيرها في مواكب الحرية مع العالم على أسس تراها ملائمة لها ولشعبها ان كل مبدأ عندما يفيد الى بلدنا يذوب في هذا البلد”.
وبمعنى صريح لا جدال فيه ولا مراء: مجتمع لا مبدأ فيه ولا نظام الا مبدأ الأيمن المطلق بقاسم وبالنظام الذي يختاره هو وعلى الديمقراطية السلام.
وتواجه الشخصيتان في قاسم القصبة الكردية وتتبادلان الأدوار بنحو شغوف.
الوجه الثاني لقاسم اقر بالشركة القومية في الوطن الواحد وهو الذي أجاز القومية الكردية بتنظيم سياسي كان يؤمل ان يجعل منه بوقا له وحيوانا مدجنا يلبي أي إشارة الا ان الوجه الأول هب يتصدى بكل شراسة لمحاولة وضع هذه الصيغة القولية موضع الامتحان والتطبيق بحمية الرائد الركن المقدم اللواء الرابع الذي جرد لمواجهة ثورة 1945 البارزانية.
وقد خيل له انه قادر على سحق الثورة الان بما استطاعته يومذاك باحتلال جبل نواخين بزمرة من جنود الشغل والنقلية والطباخين.
وأقول: من العبث ان تجد تعاليل منطقية او علاقات سببيه بين ماصدر من قاسم دون ان تفترض فيه شخصيتين متنافستين تحاول احدهما استباق الأخرى بنحو عدائي ومغالبة ومن خلال ذلك تخرج تلك المنطلقات التلقائية بخيرها وشرها مثلما يخرج الحاوي او الساحر من قبعته ارنبا مرة او حمامة او افعى بحسب ما يختار في ظرف من الظروف لينال التصفيق وهتاف الاستحسان من الجمهور او من هذا الطرف او ذاك تراه بشخصه
الثاني يؤكد انه يسير على وفق مخططات معدة مسبقة وتقليب وجوه النظر وهو مجرد لغو وادعاء فارغ فقد تعودت اسماعنا في حينه القرار السياسي من عبارة شاردة تخرج من فمه لم يعدها سلفا لكنه كان متأكدا بانها ستطرب الجمهور وسيعد تنفيذها من جملة ما اصطلح عليه وقتذاك بعبارة مكتسبات الثورة وهو يتوقع طبعا التصفيق والاستحسان.
ونأخذ المنازعة بين هذين القسمين أحيانا طابعا جذابا ومن ذلك موقفهما في المعركة التي نشبت بين ج.ع.م. والاعلام العراقي بعد احباط محاولة الشواف الانقلابية فقد انطلق عبد الناصر يهاجم قاسما بالاسم المجرد في خطيه الهستيرية بكل من دمشق والقاهرة خالعا عليه لقب قاسم العراق وهو لقب أصاب فيه من النجاح ما قصر عنه فلقب المماثل المقابل الذي خلعه على عبد الناصر المهداوي وبعض الصحف أي ناصر الاستعمار فقد بقي قاسم في اثناء ذلك وكأنه المقصود وان عبد الناصر وراء شخص اخر وبدأ المجهود الخارق الذي كان يبذله في النأي بنفسه عن المعركة المحتدمة هدوء ووقار وتعفف عن النزول الى مستوى ذلك الرجل في دمشق والقاهرة ومن مظاهره الطريفة اجتنابه المطلق المذكر عبد الناصر لا بالاسم ولا بالاشارة ولا بالضمير. بقي طوال حياته السياسية لا يذكره ولا مرة واحدة، والتفسير الوحيد الذي يعطيكه أي محلل نفساني انه محاولة لقاسم الثاني في اظهار تفوقه الادبي والخلقي على خصمه والظهور بالقادر على ضبط النفس والإرادة وكلها تغطية لعجز القاسم الأول عن مجاراة عبد الناصر ويغلب على ظني ان وليم مايكل مندوب مجلة التايم الأميركية كان قد فطن بنحو ما الى هذه اللعبة التي مارستها ازدواجية قاسم في 21 اذار 1959 عندما حاول جهده استدراج قاسم باسئلة ذكية متتابعة الى ذكر اسم عبد الناصر او الإشارة اليه فباءت محاولته بالفشل التام.
وتبدو الموازنة اللامنطقية وهي كما ذكرنا نتيجة المغالبة المحتدمة من الشخصيتين في موقف يربك فضلا عن هذا الأسلوب الذي يتبع عادة في تزوير تاريخ العراق وقلب الحقائق فيه عاليها باسفلها.
في الشهر الثالث وربما في أيلول اصدر قاسم القانون رقم 33 باسم قانون العفو عن المحكومين السياسيين وبمقتضاه شطبت الأفعال الجرمية عن القائمين بحركة مايس 1941 الموالية للمحور .واعيد الاعتبار من بين اعيد اليه الضباط الأربعة الذين عدموا ووصف القانون ما قاموا به افعالا وطنية تستحق تقدير الوطن الا ان هؤلاء الضباط الأربعة الأربعة كانوا بين زمرة الضباط السبعة الذين تأمروا على حياة بكر صدقي وقضوا عليه مع المقدم محمد علي جواد وهو ابن خاله قاسم وكان لزاما والحالة هذه ان معادلة فاصدر قانونا اخر مماثلا عدّ مماثلا عد فيه الفريق بكر صدقي ومحمد علي جواد من زمرة شهداء الوطن وهم يستحقون تقديره.
وبديهي لن تقوم هذه الموازنة عقبة يوم الحشر يوم الوعد الحق عندما يتم الفصل بين القتيل والقاتل وليك هذا :يوم أصيبت مقولته عن الجيش والشعب بضربة موجعة ولم يعد لقاسم الثاني مبرر لترديد عبارة (عفا الله عما سلف) ليجد قاسم الأول منطلقا الى القسوة التي تجلت في ارسال طائفة كبيرة من رفاقه الضباط الى الميدان الرمي والسجون، ومعظمهم لم تتوفر ضدهم ادلة كافية للإدانة وفقا للقانون. كاشفا عن جهل فيه مطبق بطبيعة النفس البشرية وقد خفي عنه ان عامل طلب الثأر والانتقام كثيرا ما يتغلب على عامل الخوف والتردد ولولا ذلك لأثر القضاء على حياته بيده كما يفعل قباطنة السفن الغارقة او القادة العسكريون اليائسون وانا عندما رأيت جثته على لوح التلفزيون وهي الصورة التي كان باستطاعته تجنيب محببه وانصاره رؤيتها باتهاء حاته بيده بحضرت لنفسي أولئك القادة الكبار من الجيش الألماني الذي ائتمروا على حياته هتلر في العام 1944 كيف قضوا على حياتهم بأيدهم وحرموا الدكتاتور لذة جرهم الى المحاكمات مهينة ثم قتلهم بل لا استثني هتلر نفسه الذي قضى على حياته بيده ايضا.
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012