استذكار لسفينة من البردي كادت تجوب العالم

حسين ناصر أمدهلي
كنت بعمر سبع سنوات وأنا أشاهد وأعايش على ضفاف نهر دجلة والدي المرحوم الحاج ناصر البزوني، وعمي الحاج كاطع البزوني، وكانا من بين الذين شاركوا هايردال النرويجي في صناعة سفينة القصب والبردي العملاقة (دجلة).
كنت أرافقهما يوميا وأشاهد مراحل صناعة السفينة، والتي تجمع الفن والخبرة التي أعتاد عليها أهل قضاء القرنة والمدينة شمالي البصرة.
لقد اختار هايردال موقعه بالقرب من ملتقى دجلة والفرات في مدينة القرنة وتم جلب القصب من قرية ام الشويج، قبل ان تتحول تلك القرى والمناطق القريبة منها الى مناطق مغلقة للصناعات النفطية.
لقد وصلت الى المكان المقصود الذي لم يترك له أثر على الاطلاق، فقد تحول الشاطئ الى متنزه، وميّزت فقط (شجرة ادم) بشيء من الخصوصية اما ما عداها فتركته الجهات المعنية الى حافة النسيان.
لم الحظ لافتة تشير الى المكان ولا أثر يذكر بالجهود الكبيرة التي قام بها الرجال المبدعون انذاك بمشاركه هايردال ولا حتى مجسم يخلد تلك المغامرة.
العتب كل العتب ليس فقط على الجهات الرسمية في مدينة مثل القرنة، فتتحمل جامعة البصرة الجزء الاكبر من ذلك الاهمال الذي لاقته رحلة هايردال، حيث لم يفكر القائمون على ذلك الصرح العلمي تسيير رحلات علمية وترفيهية الى تلك المنطقة التي تدخل في صميم اهتماماتها العلمية.
(دجلة) الذي صنعه عام 1977 وقطع فيه المحيط الهندي من اجل ان يثبت بأن السومريين كانوا على تواصل مع الحضارتين الهندية والفرعونية عن طريق البحر.
لقب هايردال بـ (رجل العالم) لانه جال الكرة الارضية من اقصاها الى أقصاها، رغبة في اثبات ما توصل اليه من قناعات تتلخص في ان حضارات الشرق الاوسط وخصوصا حضارات وادي الرافدين وحضارة وادي النيل، كانت تتواصل فيما بينها عبر البحار، وتتواصل ايضا بينها وبين الحضارات الاخرى عبر المحيطات في وداي السند، واميركا الجنوبية. وان تلك الحضارات وصلت الى اميركا قبل كولومبس بآلاف السنين، وهذا ما فرضه عليه تخصصه في علم الاعراق.
في العام 1977 ذهب هايردال الى مناطق الاهوار بحثا عن بقايا الحضارة السومرية، وفي نيته خوض مغامرة بحرية اخرى، وهكذا قرر صناعة قارب من نبات البردي، وبعد التداول مع عرب الاهوار، نصحوه بأن يبني القارب من البردي الذي يقص في شهر آب، وصنع له قاربا من نبات البردي، يصل الى ثمانية عشر مترا اسماه قارب (دجلة).
وبدأ بناء قارب دجلة في فصل الصيف وانتهى العمل بداية الشتاء. أبحر هايردال في كانون الاول عام 1977 رافعا علم الامم المتحدة، كما فعل في معظم رحلاته المجنونة، وقد اختار احد عشر رفيقا يصاحبونه في تلك الرحلة، منهم الفنان التشكيلي العراقى رشاد نزار سليم، وهو العراقي الوحيد على متن المركب، وكذلك كان من بين رفاقه الطبيب العسكري والرحالة الروسي الشهير يوري سينكيفيتش.
وبدأ دجلة رحتله من مدينة القرنة شمالي البصرة، ثم شط العرب، مرورا بالخليج الى خليج عمان، ثم المحيط الهندي الى باكستان، ومن باسكتان اكمل القارب دجلة رحتله وسط تلاطم الامواج العاتية، عبر المحيط الهندي الى خليج عدن، وحينما وصل قبالة جيبوتي عند مدخل البحر الأحمر، منع هناك من المرور الــــى البحـر الأحمر، نتيجة الظروف السياسية المعقدة التي فرضتها آنذاك تداعيات الحرب الباردة، وبعد ان فشل في اقناع الجهات المانعة بان مهمته علمية انسانية بحتة، قرر هايردال في الثالث من نيسان عام 1978 احراق القارب كنوع من الاحتجاج على ما حصل. وفي ذات اليوم ارسل رسالة الى الامين العام للامم المتحدة كورت فالدهايم يشرح فيها ملابسات الامور ويحتج على ما وصلت اليه الامور بين اقطاب هذا العالم. لتنتهي بذلك رحلة القارب دجلة التي استمرت أكثر من اربعة أشهر قطع خلالها مسافة تصل الى 6800 كم.
عن تلك المغامرة والتجربة المهمة التي كادت ان تكتمل الف هايردال كتابا بعنوان حملة دجلة.. في البحث عن البداية.
لقد رحل هايردال عام 2002 وترك وراءه منجزا علميا جاء بعد سلسلة من المغامرات، احتضن بقاياها متحف له في العاصمة النرويجية اوسلو، وفي ذلك المتحف جناح خاص يستعرض رحلة هايردال الى الاهوار وتجربته مع قارب دجلة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة