محمد زكي ابراهيم
روي عن أحدهم أنه قال «إن اللغة لم تخترع للتعبير عن النفس، ولكن لإخفاء ما في النفس، ولم تخلق إلا للتمويه على الناس حتى لا يدركوا حقيقة ما في داخلهم من نزعات»!
قول صادم غير متوقع، وكلام مؤلم غير مألوف. فقد كان الإيمان السائد أن اللغة هي أداة التعبير عن المشاعر، وسبيل الإفصاح عن الرغبات، فإذا هي عكس ذلك تماماً.
أي أن القصائد التي أنشأها الشعراء، والكتب التي وضعها المؤلفون، والأغاني التي رددها المغنون، لم تكن سوى وسائل للتعتيم على ما يشعر به هؤلاء من خيبة أمل، أو مرارة فشل، أو نزعة عدوان، أو كراهة غير، أو سوى ذلك من الأمور.
وقد أدرك العرب هذه الحقيقة منذ قرون طويلة فقالوا إن أصدق الشعر أكذبه! فليس هناك ما هو أسهل على الإنسان من التلاعب بالألفاظ، أو المناورة بالكلمات، حتى لو مس ذلك أرق جوانب العاطفة لديه.
إن الازدواجية التي يعيشها لم تأت من فراغ، ولم تحدث هكذا فجأة. بل هي حقيقة من حقائق الحياة اليومية. ولا يتقنها إلا هو، من بين جميع الكائنات الحية، وغير الحية!
ولعل هذا هو بالضبط ما جعل العلماء يلجئون للتجربة، ولا يكتفون بالتأمل. فالتجربة لا تكذب ولا تخفي ولا تزور الحقائق. ولولاها لما تحولت النظريات التي أنتجها العباقرة وأشبعوها بحثاً، إلى مكائن وآلات ومصادر رزق. ورغم ذلك فإن هناك الكثير من النظريات التي ماتزال حبيسة الصدور، أو رهينة الكتب والأوراق.
وربما كان عالم السياسة من أصدق الأمثلة على الاختلاف بين ما يؤمن به المرء وما يفعله في العلن. فالأهداف والبرامج والوعود والطموحات، تتغير بين آونة وأخرى. ولا يتحقق منها إلا القليل، وقد لا يتحقق أبداً. ولو كان السياسي صادقاً لما رضي أن يفعل خلاف ما يقوله، ولا أن يسير عكس ما يصرح به. ويجد الأتباع حرجاً بسبب هذا الانفصال الكبير بين الفكر والعمل، والنظرية والتطبيق. فلا يحصلون من أحلامهم، إلا على النزر اليسير.
وربما كانت هذه هي العلة في أن الأفكار المثالية التي يؤمن بها الجميع، لا تجد سبيلها إلى الواقع أبداً، ولا تنجح في إنقاذ المجتمع من الرذائل. فللإنسان قدرة كبيرة على أن يغرم بشئ، ويأتي بخلافه. ولا يأنف أن تفترق مقدماته عن نتائجه، أو يتناقض تفكيره مع تدبيره. ومثل هذا السلوك لا يمكن أن يكون له مردود على الإطلاق.
إنه غرس عقيم لا ثمر له ولا أوراق ولا أغصان. وليس من اليسير اكتشاف زيفه وبلادته وقلة نفعه. ولكن الإنسان قادر على إقناع الآخرين بلغة جميلة سلسة أنه لا يعجز عن تحويل حياتهم إلى فردوس، ومعاناتهم إلى نعيم، فهذه هي في الغالب وظيفة اللغة لديه.