المرحلة الأخيرة:
تكتسب التطورات الميدانية في مدينة إدلب السورية أهمية خاصة خلال المدة الحالية، باعتبار أنها باتت المنطقة المركزية المتبقية في نطاق الصراع المستمر بين نظام بشار الأسد من جهة، والمعارضة المسلحة والتنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» من جهة أخرى.
وتشير عدة تقارير إلى أن النظام حشد طواقم عسكرية عديدة من قواته في محيط المنطقة خلال المدة الماضية، إلا أنه قام مع نهاية الأسبوع بسحبها من جديد، وهو ما تواكب مع حملة تشنها تركيا من أجل منع التدخل العسكري في المدينة، التي تنشر قواعدها العسكرية على مقربة منها، على نحو يضفي مزيدًا من الغموض على مستقبل تلك التطورات خلال المرحلة القادمة، لا سيما أن ذلك مرتبط بحسابات ومصالح لقوى أخرى معنية بالصراع في سوريا.
سيناريوهات مختلفة:
ربما يمكن القول إن ثمة مسارات ثلاثة رئيسة يمكن أن تتجه إليها التطورات التي تشهدها إدلب في الوقت الحالي. يتمثل المسار الأول، في التصعيد العسكري، الذي يرى النظام السوري أنه الأداة الأساسية التي تمكنه من توسيع نطاق سيطرته على مزيد من الأراضي، على غرار ما حدث في مناطق أخرى. وقد صرح الرئيس بشار الأسد بأن «معركة إدلب باتت وشيكة»، وهو ما دعمته تصريحات أخرى أدلى بها بعض المسؤولين السياسيين والعسكريين في النظام السوري في المدة الأخيرة.
واللافت أن هذه التصريحات بدأت تتزايد بعد الوصول إلى ترتيبات أمن الحدود في الجنوب مع إسرائيل والأردن، وبمواكبة ترحيل قوات موالية لـ»الجيش السوري الحر»، إلى جانب مجموعات إرهابية أخرى، تم نقلها في المدة الأخيرة إلى إدلب، أغلبها من العناصر التي تنتمي إلى «جبهة النصرة».
فيما قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في مؤتمر صحفي مع نظيرة التركي مولود شاويش أوغلو في 14 اب أغسطس الماضي، أن «الجيش السوري له كل الحق في قمع نشاط الإرهابيين في سوريا، بما فيهم جبهة النصرة»، مشيرًا في هذا السياق إلى أن «الوضع في إدلب هو الأصعب، بسبب العدد الكبير لمسلحي النصرة» الذي يصل، حسب بعض التقديرات، إلى عشرات الآلاف من المسلحين. مشددًا على أن «الجيش السوري يتواجد على أرضه ويحارب لأجل استقلال بلاده ضد الإرهابيين، وبما يتوافق مع القرار 2254».
ويبدو أن ذلك لا ينفصل عن الجدل المستمر بين روسيا والقوى الدولية والإقليمية المعنية بتطورات الصراع في سوريا ومستقبل المواجهة في إدلب، خاصة بعد التحذيرات التي أطلقتها الأخيرة من التداعيات المحتملة التي قد يفرضها التدخل العسكري من جانب النظام للسيطرة على المدينة.
لكن هذا المسار ربما يرتبط بمتغيرات عديدة، يتمثل أبرزها في مستوى التفاهمات التي يمكن أن تصل إليها روسيا وإيران وتركيا خلال المدة المقبلة، خاصة بعد الإعلان عن لقاء سيعقد بين الرؤساء الروسي فلاديمير بوتين، والإيراني حسن روحاني، والتركي رجب طيب أردوغان في بداية أيلول سبتمبر المقبل، حيث سيكون الوضع في إدلب محور المحادثات بينهم. ويتعلق المسار الثاني، باستمرار الوضع على ما هو عليه.
وقد كان لافتًا أن تركيا بدت حريصة على توجيه إشارات ملتبسة حيال موقفها إزاء التطورات في إدلب. ففي الوقت الذي ألمحت فيه إلى عدم معارضتها للمواجهة مع «التنظيمات الإرهابية»، فقد عدت أن «خوض حرب في إدلب بمنزلة خط أحمر».
لكن اتجاهات عديدة رجحت أن تصر أنقرة على عدم الاستناد إلى الخيار العسكري في التعامل مع إدلب، حتى لو كان ضد التنظيمات الإرهابية.
ويواجه هذا المسار بدوره عقبات عديدة، أهمها الضغوط التي تمارسها إيران والنظام السوري من أجل إنهاء تواجد تلك التنظيمات في إدلب وتعزيز قدرة النظام على استعادتها من جديد. ويبدو أن هذه الضغوط سوف تتزايد في المدة المقبلة، على ضوء التصعيد المحتمل بين إيران والولايات المتحدة الأميركية مع بداية تفعيل العقوبات الأميركية المفروضة على الأولى.
فيما ينصرف المسار الثالث، إلى اتجاه كل طرف نحو تبني آلية شتى. إذ قد تتجه روسيا، ومعها النظام السوري، إلى خوض معركة عسكرية ربما تكون هي الأعنف في إدلب، بدعوى محاربة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية خاصة «داعش» و»جبهة النصرة»، في حين تعمل تركيا على تعزيز مواقع المعارضة السورية و»الجيش السوري الحر» عند نقاط التماس الحدودية ومع خطوط انتشار قواتها داخل مناطق خفض التصعيد.
وقد تم بالفعل الإعلان عن نشر مضادات طيران في تلك المناطق وفقًا لوكالة الأنباء التركية، في حين أن تركيا تنشر في الأساس 12 قاعدة تقريبًا في تلك المناطق. لكن يبدو أنه سيكون من الصعب أن تقبل روسيا بخروج أو «شرعنة» وجود «جيوب» لتنظيمات تعدها إرهابية وتضم عناصر أجنبية مطلوبة في تلك المنطقة.
وقد تدعم بعض التكتيكات الميدانية التي تظهر تحركات عسكرية من جميع الأطراف في محيط إدلب، هذا المسار أيضًا، خاصة بعد ظهور مؤشرات عديدة تكشف أن تنظيم «داعش» يتحرك في مسار واحد في ريف إدلب الشمالي باتجاه الحدود التركية، اذ كان لافتًا أنه بدأ في إبرام صفقات مع «جبهة النصرة» لتجنب التصادم بينهما.
وفى هذا السياق، من المرجح أن تتجه كل من تركيا وروسيا إلى عقد اتفاق شبيه باتفاق الأخيرة مع إسرائيل في الشهر الماضي، لإعادة صياغة ترتيبات أمن الحدود في تلك المنطقة، ما يمكن أن يعزز من احتمال تحرك قوافل من المدنيين باتجاه الحدود التركية. ومن المتصور أن موسكو قد توافق على تلك الخطوات لاعتبارات ترتبط بتطور علاقاتها مع أنقرة. وقد يتم توسيع هذا الإطار، خاصة بعد الإعلان عن احتمال عقد لقاء رباعي بين روسيا وفرنسا وتركيا وألمانيا خلال المدة المقبلة.
وفي النهاية، يمكن القول إن النظام السوري وحلفائه باتوا معنيين بإنهاء معركة إدلب، وذلك عبر توافقات لا تشكل تصدعًا في التحالف الذي تقوده روسيا. لكن يبدو أن ذلك سوف يرتبط بمتغيرات أخرى مهمة، يتمثل أبرزها في التفاهمات التي ما زالت روسيا حريصة على الوصول إليها مع القوى الأخرى المعنية بتطورات الصراع في سوريا بنحو عام وإدلب خاصة، التي باتت اختبارًا حاسمًا سوف تفرض نتائجه تداعيات مباشرة على مستقبل هذا الصراع.
المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة