يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 38
حوارات مع جرجيس فتح الله*
س: يقولون ان السيد القزاز كان من جماعة نوري السعيد , وان القوة ومضاء العزيمة اللتين اتصف بهما كان مصدرهما هذه الصلة وان اجراءاته كانت تشير الى انه يستند في الدعم الى قوى مركزية في السلطة ؟
القول بأنه كان من جماعة نوري السعيد يعني او انه بديل عن القول بأن القزاز كان من افراد الطبقة الحاكمة الذين تداولوا حكم البلاد طوال العهد الملكي . وهذا خطأ مزدوج : حسابي وعملي . كانت سن القزاز عند تشكيل اول حكومة عراقية في ظل الاحتلال لا تزيد عن سبعة عشر سنة او نحوها . وقد راح افراد هذه الطبقة التي خلفها البريطانيون من ساسة وضباط العهد العثماني , يتبادلون المقاعد فيما بينهم , اثر وخصومة واتفاق وتحالف وتحزب ومعارضة وكانت تلحق بهم بين ان واخر بطانة من طلاب السلطة , واقرباء ومحاسيب . ولم يكن القزاز من هؤلاء ايضا فهو من صنع نفسه وقد رفعته كفاءته كموظف اداري فلفت الانظار اليه , واصبح بنظر هذه الطبقة من تلك الفئة القليلة جدا من الموظفين الذين زكاهم اخلاصهم لعملهم ونزهتم للقيام بما لايمكن ان يقوم به غيرهم اي لما يمكن ان يطلق على الواحد منهم (رجل الملمات ). او (الرجل الندب ) وهذه افضل ترجمة للمصطلح الإنكليزي الجاري والملاحظ في تاريخ هذه البلاد ان الطبقة الحاكمة العراقية , عندما تلجأ الى امثال هؤلاء عندما تخرب بها الامور ويشتد عليها الضغط الشعبي وحملات المعارضة فنختار النزيه الكفوء الذي لاتشوب حياته الوظيفية شائبة لغرض تحسين صورتها , او التظاهر للشعب بوجه جديد . ويحضرني مثيلا للقزاز من (سعد صالح) الذي انتزع من متصرفيه صغيرة كالحلة او الديوانية وعهد اليه رأسا بوزارة الداخلية في وقت من الاوقات . لم ينتم (القزاز ) الى حزب من الاحزاب ليكون له مرقاة للمناصب الكبيرة كما فعل كثير غيره ولم يكن يعتمد على تلاد اسرة ان ملكت عراقة وسمعة ومكانه في مسقط راسه السليمانية فهي لم تملك من النفوذ السياسي ما يكفي لاصعاده الى مراكز المسؤولية واما كيف تدرجت به المناصب فانا اجهل ذلك وقد عرفته متصرفا لألوية ثلاثة : اربيل ثم كركوك ثم الموصل فحسب .
في اواخر العام 1953على ما اذكر استدعي لأشغال منصب وزارة الشؤون الاجتماعية والبلاد تغلي غليانا واثار الانتفاضة الشعبية للسنة التي سبقتها مازالت مائلة . فقصدته وفي كرب عظيم ووجدته وحيدا منهمكا في حرق اوراق بالمدفأة الاثرية التي ورثتها البناية العهد العثماني , واحتلها قبله ولاة سابقون امثال ( سليمان نظيف , علي احسان باشا , نوري بك , الفريق عمر وهبي باشا ثم العقيد ليجمن ايام الاحتلال الاولى ).
لم نتبادل حديثاً يستأهل الذكر , وكانت مناسبة وداع ثقيلة وربما خانني النطق بل اذكر انه قال معقبا على صمت : ” هذه خدمة عامة ربما اوسع قليلا هنا عسى الله يوفقني “. ولم يخرج لتوديعه اذا لم يكن هنالك توديع . فقد انسل انسلالا من المدينة بسيارته الشفروليه التي قبلها مكرها – هدية من المغتربين اهالي بلدة تلكيف – اعترافا بمنه عظيمة ساتحدث عنها فيما بعد . وقصدته في بغداد صحبة صديق الطرفين ( الاستاذ علاء الدين الوسواسي ) في ديونه بالوزارة زائرا وبعدها بأسابيع قلائل استقالت الوزارة . واظنه عين اثر ذلك مديرا عاما للموانئ وهو منصب خطير يعهد عادة الى وزير سابق . وكان مليئا بالمشكلات والاضطرابات العمالية . وطرق سمعي انه ابى ان يشاركه صنع القرار الموظف البريطاني الذي يليه .
وقدم استقالته احتجاجا وعاد الى بغداد دون انتظار قبولها . وهذا ماحدثني به شخصيا في لقاء صدفة نادرة بديوان وزارة المعارف وقد استدعاني الدكتور عبدالله الدملوجي الوزير انذاك لامور خاصة .فاذا بالقزاز يدخل مكتب السكرتير حيث انا فيبادلني التحية ويجلس الى جانبي ويسأل عن هذا الصديق وذاك . ثم اني تجرأت فسالته عن استقالته وكيف يمكنه ان يتدبر وسائل العيش بموارده المحدودة . فأجاب وانا اذكر قوله كلمة كلمة “انظر , اني حسب تقاعدي وهو يتجاوز الخمسين ديناراً بقليل . والمؤونة البيتية سيتكفل بها عمي في سليمانية , وانا ادفع عشرين ديناراً شهرياً ايجار منزلي والباقي يكفيني . والمهم هو المحافظة على كرامتي “.
ولاحظت سكرتير الوزير اثناء حديثنا وهو مصغ وهو المرحوم صديقنا العزيز الباحث الاديب ميخائيل عواد شقيق الاستاذ كوركيس عواد . وقد بدأت عليه علائم الدهشة من (تنازل ) شخصية كبيرة كالقزاز للتحدث بامور شخصية جدا مع محام شاب في مقتبل العمر غير معروف الافي اوساط علمية ضيقة .لم يبد من (القزاز ) طوال علاقتي به اي ميل الى التظاهر او التصنع او التعامل في انتقاء العبارات . والتحايل بما ليس فيه معبرا عما هو ذات نفسه غير عابئ بما نخلقه من اثر ولاتهمه صفحة محادثة ولاتخونه البديهة الشجاعة .ولاتفوته المفارقة والفكاهه ولايحرجه من يعلوه مركزا فلا يتحسب للعواقب .عمل القزاز الكثير للواء الموصل بزمن قصير جدا وجرتني علاقتي به وما توسمت فيه ان احشر نفسي يوما في حرم السلطة او اقدس اقداسها بحادثين او ثلاثة , ولم يكن غرضي قط اختياره . فقد كانت ثقتي بجراته وسلامة تفكيره لاتشوبها شائبة شك. ولي حادثة اطارات صديقي (علي ) سابقة .
ومن المعروف ان وثائق حسن السلوك التي اودع امر اصدارها حصرا مديرية الامن العامة . وهي السلاح الفعال الذي كانت السلطة تستخدمه بين بجباية ضريبة حاصل زراعي تقدم بها احد سكانها المزارعين (للقزاز) نبته الى شكوى البلدة الابدي .فبادر تلقائيا الى نفض الغبار عن المشروع وبدأت حرب عدوان بينه وبين بغداد لم تمتد طويلا . لم يهدأ له بال حتى انجز المشروع واتوت تلكيف من ماء دجلة وبلغ النباء مغتربي (تلكيف) في امريكا بطبيعة الحال وعرفوا فضل القزاز فكان استعدادهم للترحيب به اثناء زيارة قام بها الى الولايات المتحدة يجل عن الوصف .
قص علي بعد عودته طرفا من وقائع الاستقبال المنقطع النظير الذي نظمت له الجالية العراقية , وبحرارة وعاطفة غير معهودة فيه كيف خرجت الكتب المحلية ترحب ب(حاكم ولاية الموصل وبالضبط )وحار المستقبلون في انتقاء الهدايا له (ذكر لي بعض القادمين الزائرين منهم انه لم يحصل في تاريخ زيارات كبار الشخصيات للولايات المتحدة كما حصل لسعيد القزاز عندما جاءنا . ورفض رفضا قاطعا قبول ماعدها له من هدايا ) وقال لي هو معلقا على هذه النقطة بالذات :”اعتذرت عن قبول اي شيء محتاجا بأن قانون البلاد يحظر قبول الهدايا بسب انجاز اعمال تدخل ضمن واجبات الموظف “. ولم تكن هذه الحقيقة , اذا ليس في القانون العراقي ما يمنع ذلك .
الا انهم اصروا وما ان استقر به المقام حتى ارسلوا له سيارة الشفروليه التي اذكر انها كانت تحمل الرقم (3) ولم يكن يسعه ردها هذا الى جانب هدايا اخرى .
واحدث (القزاز) مايشبه الانقلاب الحضاري في المجتمع اليزيدي الكردي .ويؤسفني ان التفاصيل التي دونتها عن هذا الحدث التاريخي ليست تحت يدي . قال”قلت لهم (يقصد رؤساء اليزيدية)ليس في الدين عندكم ما يمنع تلقي العلم . وعليكم ان تأتوني بنص خلاف ذلك . سأكثر من فتح المدارس في كل قصبة وقرية وساعد كل مقاومة او مقاطعة للتعليم منكم عملاً مخالفاً للقانون ومخلاً بالامن والراحة العامة وعندئذ سااستخدم صلاحياتي باعتقال وزج كل معارض بالسجن ” وذكر ان اميرهم يقصد تحسين ) كان في الواقع , شاعراً يجوب لحاق طائفته بالركب الحضاري . او ربما كان يدري بأن (القزاز ) لايطلق تهديداً اجوف فقد كان هنالك نظام دعوى العشائر سلاحاً فعالاً في يده .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012