يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 35
حوارات مع جرجيس فتح الله*
الى جانب العضو الجديد الاستاذ عواد كانت لي علاقة شخصية يخالطها تقدير واحترام مع اعضاء قدماء في المجمع كالدكتور داود الجلبي والاستاذ محمد بهجة الاثري والدكتور جواد علي . وهي علاقة تعود الى الخمسينيات فأنذاك استقبلت المحافل العلمية في العراق والبلاد الناطقة بالعربية نقلي الى العربية لكتاب تراث الاسلام وتعليقاتي عليه ، بحفاوة وتقدير ، كما تابعت مجلة المجمع العلمي العراقي نشر مقالات وابحاث علمية ولغوية ونقدية لي . وطبعت لي على حدة في اوائل العام 1958 رسالة عنوانها “معاني اسماء الاصوات في كتاب الاغاني للاصبهاني . مع نبذة من تاريخ اهتمام المستشرقين بالموسيقى العربية ” ومن اثاري المنشورة كتابين في القانون الى جانب تراجم ادبية واجتماعية وهكذا ترى اني لم اكن وجها غريبا من اعضاء المجمع العلمي العراقي .
والنبأ السار الذي نوه به الاستاذ (عواد ) الي ونحن في طريقنا الى زيارة الرئيس محي الدين . قال ان اعضاء المجلس قرروا قبل بضعة ايام ترشيحك لعضوية العاملة وقد فضل الرئيس كما جرت العادة ان يؤخذ رأي المرشح شخصيا بالموافقة قبل توجيه الترشيح خطيا .
ووجدت الى جانب الرئيس كلا من الدكتور احمد نسيم سوسه والاستاذ شفيق العاني وهما ممن لم التق بهما من قبل الا اني عرفت عنهما امورا معينة اولهما كان ممن ملك قابليات ومؤهلات علمية بارزة في مجال اختصاصه ومؤلفاته في مواضيع الري والزراعة كانت تحتل المرتبة الاولى في دائرة ذلك العلم . الا اني ماكنت اجهل امر القرار الذي اصدرته لجنة التطهير الحكومية بفصله وكان مديرا عاما للري . وهي اللجنة التي عينت لتطهير جهاز الدولة من العناصر الفاسدة . وعرفت ايضا انه كان من اسرة يهودية معروفة في الحلة . وقد اشهر اسلامه على المذهب الشيعي الاثني عشري وعلى يد الدكتور فاضل الجمالي ( وهو مرب تقلبت به المناصب ليغدو رئيس حكومة في العهد الملكي ) وقد كتب سوسه عن تجربته هذه كتابا طريفا في جزأين عنوانه (في طريقي الى الاسلام ) ، قدم له الدكتور الجمالي نفسه . وعرفت بالشهرة والسماع ومما يتداوله زملاؤه القضاة في محكمة تمييز العراق – امورا عن الاستاذ شفيق العاني ولم تكن من صالحه فقد كانوا يشكون من موافقة المتذبذبة في قرارات مبدئية لقضايا معينة حيثما كانت الجهة الحكومية طرفا فيها . وفي ظني انه كتب كتابا في القانون الوضعي لم يكتب له رواج وانه مدين لعضويته في المجمع الى مايشبه المكافأة الحكومية .
ومن الاحياء الذين افتقدهم المجمع وقتذاك الاستاذ العلامة توفيق وهي والدكتور جواد علي وكانا خارج البلاد ومحمد بهجة الاثري الذي كان يشبه معتزل منذ انقلاب الثامن من شباط وافتقدت الدكتور مصطفى جواد ولي به معرفة بسيطة وكان قد توفاه الله وغاب الشيخ محمد رضا الشبيبي ، وتساءلت في سري ترى من هم الاعضاء الذين اختاروني زميلا ؟ثم اني كنت اهم بطرح سؤال معين بعد ان انهى الي الرئيس بنية المجمع في ضمي الى هيئته العاملة اردت ان استفسر عما حدا بهم الى اختياري وفي هذا الظرف بالذات الا اني وازنت الامر فوجدت سؤالا كهذا لاينطوي على كياسه وذوق . اذ كان شائعا في الاوساط الادبية والثقافية انذاك ان للسياسة والمحسوبية والحزبية دخلا في تعيين بعض الاعضاء وكان للسلطة القول الفصل في تثبيتهم وان ذلك يجري بمرسوم جمهوري صادر من رئيس الدولة على ماقيل .
واسرعت فشكرت الرئيس والاعضاء على الثقة . ثم اعتذرت عن قبول هذا بمرسوم جمهوري صادر من رئيس الدولة على ماقيل .
واسرعت فشكرت الرئيس والاعضاء على الثقة ثم اعتذرت عن قبول هذا التكريم ورجوت ان لايكلف المجمع نفسه بتوجيه الترشيح الي خطيا وقلت للرئيس وهو يطوف بي في ارجاء البناية الجديدة للمجمع وقد اشرفت المراحل الاخيرة في اكمالها على النهاية .” سيكون من دواعي سروري . بل هي السعادة بعينها لو خصصتم لي واحدة من هذه الحجرات الانيقة التي ينتموها للباحثين والكتاب ” لأتفرغ الى متابعة هوايتي بعد ان انفض عني غبار السياسة والحياة العامة “.
س: اذن لم تشاؤوا بالأخير السؤال عما دفعهم الى اختياركم للعضوية واسباب ذلك ؟
اظنه ذكر ان الفكرة عنت لهم عقب بيان الحادي عشر من اذار برغبة اعضاء المجمع في ان يضموا اليهم عنصرا كرديا . سيما بعد استحداث المجمع العلمي الكردي تطبيقا لاحكام البيان . واما بالنسبة لي ، وبعد ان استعرضت هويات بعض اعضاء المجمع فقد كان مجرد طلب استصدار المرسوم الجمهوري بتعييني يصيبني بغثيان ويشيع في اوصالي الرعدة في حالة الامتناع طبعا او القبول سواء بسواء . وفي الحالة الاولى ، سيكون تكرارا لما اقدم عليه رئيس الجمهورية هذا عندما اصر على ان لايكتب اسمي على صدر جريدة التآخي رئيسا لتحريرها في العام نفسه وقبل بضعة اشهر لاغير . وهو ممن يحفظون وينتقمون وقد مدربا او امرا لفصيلنا في دورة ضباط الاحتياط التاسعة (1946) وهو برتبة ملازم اول ويعرف في حينه باسم “احمد حسن التكريتي ” وكثر الزملاء وقتذاك مواقف معه ومقالب تبعث الضحك وقد تبين انه لم ينسن .
س: اظنك نوهت بذلك تفصيلا في كتابك “زيارة للماضي القريب ” فهل كان رفضكم ، او اعتذاركم عن قبول الترشيح للعضوية يعود الى هذا ؟ او بالأحرى واحدا من الاسباب ؟
قد يكون واحدا من الاسباب ، فضلا عما ذكرته لك وارى من الضروري هنا ان اذكر بأني لم أكن مطلعا على نظام المجمع لاتبين مدى امتداد صلاحية السلطة الى شؤونه الداخلية . وكم تملك السلطة من حق في فرض من نجده لائقا بالعضوية ورفض من لانجده كذلك وهل ان الاقتراح بالتعيين يتطلب استصدار مرسم ام لا ؟
الا ان تجربتي المرة في موضوع رئاسة تحرير التآخي . وهو موضوع يتعلق بامور حزبية صرفة لادخل للسلطة او له فيها ، حملني على الوصول الى هذه النتيجة المنطقة . رأيته سمح لنفسه بالتدخل وفرض رايه في ذلك ، فما الذي يمنعه من قرض رايه هنا ايضا سواء ارتبط التعيين بمرسوم ام بدون مرسوم ؟
ولو كنت من عشاق اثارة الفضائح او اللغط او استحداث المشاكل والتلذذ بها وبعواقبها لقبلت الترشيح وتركت الامر بين المجمع وبين السلطة يحتربان فيما بينهما . وقد كنت في وقتها على علم بما يعانيه المجمع العلمي العراقي في ظل النظام الجديد الذي عقب انقلاب السابع عشر من تموز . والمعلوم ان العضوية في اية مؤسسة علمية او ثقافية ليست في الواقع عاملا لرفع مكانة العضو او بمثابة تشريف له ، بل هي في الاصل اعتراف من تلك المؤسسة او المعهد باللياقة والاقرار بشهرة او نبوغ في فرع من فروع العلم او الفن او الادب حاز صاحبه عليه الشهرة الكافية لتدفع المجامع العلمية او المؤسسات الثقافية الى ضمه وما عليك الا ان تفتش في بطون الموسوعات والكتب الموسوعية عن اسماء مشاهير لمعت اسماؤهم فكتب لها الخلود بما انجز اصحابها ولم يكونوا اعضاء في مجامع علمية كم كان عددهم قليلا جدا بالنسبة الى الكثير جدا ممن سجلت اسماؤهم اعضاء في مجامع علمية شهيرة او ممن حمل القابا علمية ضخمة ، حمل ذكرهم ولم تعرفهم عوالم الثقافة والفن والادب باثر باق . كنت من المبدأ اجد في ذات نفسي عزوفا طبيعيا عن المناصب والالقاب ولم اطلبها لي او لذاتها مطلقا . واقول لك بفخر واعجاب اني اشعر بدين علي كبير للبارزاني لانه اكتشف بي هذه الطبيعة ولم تفت خبرته الفذة بالرجال ومعدتهم ملاحظة ذلك بالنسبة الي عندما كتب لي على اثر اصرار “البكر ” على حرماني هذا الحق . ” للقد عرفتك بانك لست من اولئك الذين يهتمون بالمناصب والالقاب او من الذين يطالبون بها ” كتبها في معرض اقناعي بالاستمرار في رئاسة التحرير رغم ذلك . واعود لاذكر سببا اخر لاعتذاري . ففي الواقع اني كنت اخشى ان يبدو الامر وكأنه رشوة موقوتة بالمرحلة العصيبة التي كان يجتازها المجمع انذاك مع السلطة الجديدة وهو مما لم يكن بخاف ولاسيما بخصوص رئيسه وهو من القوميين الناصريين البارزين وقد كان من المقربين للسلطة المدالة . بل عد من جماعة ( عبد السلام محمد عارف ) وربما كان هذا السبب في اختياره رئيسا للمجمع في حينه . وقد كرهت نفسي ان يكون الباعث للترشيح (وهم يجهلون طبعا مابين مرشحهم ومابين رئيس الدولة الجدي) مناسبة سياسية بحته ترمي بظاهرها الى التقرب من النظام الجديد . وقد استنتجت هذا ، عندما بقي الاستاذ محي الدين يلح على ضرورة ضم عنصر كوردي الى المجمع . اذ قال بعد ان تأكد من رفضي النهائي . “الظاهر ان لاسبيل لاقناعك بالعدول عن رايك . كنا قد رجحناك على الاستاذ (عبد الله النقشبندي ) فما قولك لو اتصلت به وانهيت اليه رغبتنا في ضمه الى العضوية بديلا عنك ؟ عجبت في سري من اسناد هذه المهمة الي في حين كان الاتصال به مباشرة هو عين المنطق. وبدت شكوك تساورني . قلت اني لم اجتمع به الا مرة وحده لكني سألبي طالبك واتصل به .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012