د. علي المرهج
فالح عبدالجبارالمنابع الاجتماعية والثقافية للعنف: مثلما يُمكن لنا أن نؤرخ للماضي والحاضر على أنهما نزوع نحو البناء، يُمكن لنا في الوقت ذاته أن نؤرخ للماضي والحاضر بوصفهما تاريخ هدم وتقويض وإفناء.
في كتابه «الأحوال والأهوال» يكشف لنا فالح عبدالجبار عن حُسن المآل في حال غياب الأهوال، ولكن حُسن هذا المآل لا يتم ولا يكون له كون إلَا بإتقان الإنسان لبناء الحال (الواقع) وتكييف علاقته مع الآخر المكون المُجتمعي للوطن اجتماعياً لا فقط جُغرافياً، هذا المُكون المُغاير أثنيا في التوجه الوطني، أو العقائدي، أو الطائفي، أو الطبقي، بل وحتى القومي أو العرقي، واللغوي، وصولاً للأممي، هو المُتمم الأصيل لوعي الذات بتراثها بكل ثرائه وتنوعه، فلا وجود لذات نهلت من منبع واحد، ولكن في المنبع مياه تتغير بين الحين والحين، وفي تكوينها معادن وبعض من بقايا صلصال وطين.
في مبحثه الأول يضع عبدالجبار مبحث: تأمل الذات، يتناول فيه مسألة الهُوية، والإنغلاق أو التقوقع حول الأنا (الخصوصية، الأصالة). ولك عزيزي القارئ فهم ووصل فيما نعيشه من تأثير وفعل تغيير نحو السلب فيما نعيشه من مُعاناة وتقتيل وتشريد من ذوي التوجهات السلفية ممن يدعون خصوصية، ويبنون الأصالة بوصفها عود على بدء، وبداية من صفر النقاء في التحليل والتحريم المُحمدي (الرسالي) مُتناسياً بقصد بُعد التنزيل التاريخي الذي تفاعل الرسول النبي بكل حمولة التبليغ الوحياني (الرباني) للتجاوب مع المُشركين في صلح الحديبية لدرء فتنة وللم شمل أبناء الأمة الواحدة وفض النزاع بين أولاد العم من القرشيين، فآثر الاستجابة لطلب القرشيين من المُشركين، فقبل بمخاطبة مُخالفيه بأنه بمحمد بن عبدالله، وهو نبي الله، لتجنب الفتنة وللوقاية من حرب بين أقرب المُقربين من المُتخاصمين، وهم في الأغلب الأعم أبناء عمومة وتربطهم صلة غريزية هي صلة الدم.
في المبحث الثاني: تأمل العالم، يطرح عبدالجبار رؤيته لكيفية إنتقال العُنف من القومي إلى الكوني، حينما إنفلت عقال التوصيف الوطني والقومي للهُوية، فخرجت عن إطار التحكم التقليدي وسيطرة الدولة التقليدية في مفهومنا عنها بوصفها دولة ذات سيادة، لتكون الدولة، كل دولة، خاضعة لقوانين دولية، سياسية أو مالية (اقتصادية) تفرض عليها الشركات مُتعدية ومُتعددة الجنسية شروطها في إنعاش اقتصادها الداخلي، أو تركها تدور في فلك الصراع الداخلي أو الإقليمي، لا سيما الدول الريعية ذات الدخل الواحد، وبالأخص دولنا العربية (النفطية)، فلم يعد مفهوم السيادة كما عهدناه في كتابات ورؤى القوميين والوطنيين ممن يرومون ىبناء دولة مُستقلة بعيدة عن التأثيرات الخارجية (الإقليمية والدولية)، فلم يعد مفهوم المواطنة كما عرفناه ضمن توصيفات الأنظمة الاستبدادية، بل وحتى الأنظمة الوطنية أو القومية الفردية، فنحن اليوم نعيش في مُجتمع مُتعدد الثقافات، مُجتمع «عولمي» تحكمه إرادات لا توصيف ولا تصنيف «هوياتي» لها، فالمجتمع الذي يجري عكس سير تحولات «الكوكبية» إنما هو مُجتمع يجلس أصحابه في قطار «الكوكبة» عكس اتجاه السير، ولكن القطار يسير بهم، شاءوا أم أبوا، فلا وجود لاقتصاد محلي، ولا لثقافة محلية، ولنظام سيادة تقليدي، ولا لنظام علاقات دولية في إشتراطات للدول، إنما هي فقط إشتراطات تحولات نٌظم الاقتصاد والمعرفة والسياسة والثقافة في ظل النظام العولمي الجديد، ولا مخرج لنا في العناد والرفض، أو ممارسة العُنف، إنما المخرج الوحيد لنا هو في فهم «لُعبة الأمم» في ظل النظام الجديد، وفهم آلياته وطُرق التساوق معه في الحفاظ على الهوية الوطنية، وفي الوقت ذاته لا نفقد بفعل لعب الجاهلين بمُمكنات «اللعب السياسي» الإفادة من الثورات المعرفية في «المعلوماتية» (الإنفوميديا) أو في الثورة الجينية، أو ما سُميَ بـ «الهندسة الوراثية» والتحكم في مسيرة تقدم الجنس البشري كي نسير وفق إشتراطاتها العلمية، ولا نلتفت لمقولات الصراع والصدام التي صنعها دُعاة «الحرب» من أمثال هنتنغتون في كتابه «صدام الحضارات» التي لا زالت تُثبت نجاحها بفضل تنامي الجهل والغباء المُتوارث من الذي جعلوا من أنفسهم وهم جهلة فظنوا بأن الإسلام لا وجود له إلّا بوجود جهلة يدّعون أنهم ممن حققوا تقدماً وتعريفاً بدين الإسلام بوصفه دين إرهاب لمن عاداه، فظلوا يعدّون العُدَة ومن رباط الخيل، لأنهم لا يرومون تغيير القلوب وكسب العقول، إنما يرومون الغلبة وقهر العدو يتخذون من قوله تعالى «تُرهبون به عدو الله وعدوكم…»
في المبحث الثالث ينتقد فالح عبدالجبار علي الوردي وتبنيه لثنائية الصراع بين (البداوة) و (الحضارة). فقلما تجد سلطة لدولة في أوطان استحكمت فيها (البداوة) والحلول محلها، والوردي يرى أن المشكل العراقي في التخلف يكمن في تمكن (البداوة) بقيمها من تشتيت قيم (الحضارة) على قاعدة أننا (تيهانا المشيتين)، فكل نجن العراقيون (أفندي وعكاله بجيبه).
تبدأ الحكاية حينما يرى البدو ما يعيشه أبناء الحضر من رفاهية وثراء، فثراء (الحضارة) يُغري أهل (البداوة)، ولما في (البداوة) من عصبية، فهي تسعى للوصول للمُلك، ومع المُلك يأتي الترف، ومن ترادف علاقة المُلك بالترف، تخف رابطة العصبية، وسيكون بعد حين صياع المُلك. ولن أخوض في تحليلات فالح عبدالجبار لإختلال دائرة التوازن بين ذوي «العلاقات الزراعية» والعلاقات «الرعوية»، ولكن ما ينبغي الإشارة له هو إختلال هذه العلاقة مع تبادل الأدوار وتقلباتها بين من هم من ذوي «العلاقات الرعوية» ممن أصبحوا ممن هم من ذوي «العلاقات الزراعية»، لأن ظهور البارود قد قلب المعادلة وخلخل موازينها في العلاقة بين البداوة والحضارة أيام تمكن العثمانيون من الهيمنة وبناء دولة الخلافة الإسلامية من جديد.
وضع ملاحقاً لكتابه هذا أولها كمبحث رابع دراسة لرؤى جون لوك في كتابه «رسالة في التسامح» التي أكد فيها على دور الحاكم في الحفاظ على «السلم المُجتمعي» أو «السلام المدني»، ومحاولته فصل الكنيسة بوصفها «سلطة دينية» من حقها وضع قوانين لها وللمُعتنقين لمذهبها تُنظم شؤونها الداخالية وشؤون من يرتبط بها، ولكن ليس من حقها جعل قوانينها الخاصة هذه بمثابة قوانين عامة لكل أفراد المُجتمع، حتى من هم خارج أطار الإعتراف بسلطتها الدينية، وللفرد حُرية المُعتقد، وعلى الدولة (الحكومة) إحترام حُريته هذه، إن كان لا يوجد في هذه الحُرية ما يمس أمن وسيادة الدولة، فلا يقوم للقوم قوم إن لم يؤمنوا بمبدأ التسامح بين أصحاب الأديان والمذاهب المُتخالفة، أو المُتصارعة.
لفالح عبدالجبار وقفة مع كتابه، أو رسالته «نحو السلام الدائم»، وهو رؤية مثالية حالمة يطرحها (كانت) لتحقيق سلام دائم بين الدول والأمم، تقوم على احترام الحُريات، ولأن حالة الحرب هي الحالة الطبيعية كما ذهب إلى ذلك (توماس هوبز) ويذهب كانت إلى مثل هذا الرأي، فتحقيق السلام مرهون بتوافق الأمم على دستور جمهوري يحترم الحريات العامة، قرار الحرب فيه يتخذه مُمثليها في (البرلمان)، والأفضل لمثل هذه الشعوب التي تؤمن بالنظام الجمهوري أن تتفق على حلف سماه كانت «حلف الشعوب»، تحترم فيه كل دولة داخلة ضمن هذا الحلف تقاليد وأنظمة وقوانين الدولة المُتحالفة معها، ويستقبل كل منهم أفراد الدولة الأخرى وفق ما تقتضيه حقوق الإكرام والضيافة، مع السماح بعقد تحافات تجارية «استثمارية» بين مُستثمري هذه الشعوب المُتحالفة، وصولاً بعد ثقة عبر التواصل والتصاهر والاستثمار المتبادل لإلغاء الجيوش الدائمة…ألخ (يُنظر بحثنا المنشور في صحيفة المثقف الألكترونية في 17/5/2018: الفلسفة والسلم المُجتمعي).
ليستكمل بناء رؤيته لنقد المنابع الاجتماعية والثقافية للعنف، يُحاول فالح عبد الجبار أن يطرح بديلاً لهذه الرؤية عبر الإفادة من أراء ومساعي المهاتما غاندي لنظريته في «اللاعنف» وتطبيقها في النضال ضد الإستعمار، ونجاحها الحيوي في الترويج للـ «الأهيمسا»، أو المذهب الهندوسي الداعي للضرورة تجنب العُنف، أو إيذاء أي كائن حي، لأن كل كائن حي إنما هو «مظهر من مظاهر الإله» (أشاريا فينوبا: اللاعُنف، دار الروائع، بيروت، بلا، ص13).