في بداية الثمانينيات كنا في إيران عشية آخر ثورة شعبية شهدها ذلك القرن، وقد عشنا وشاهدنا أبرز المحطات التي عاشتها تلك الثورة الشعبية، وكيف التهم تيار ولاية الفقيه بقية التيارات والتنظيمات السياسية والنقابية، المشهود لها بأداء أدواراً بارزة وحيوية في اندلاع الثورة وانتصارها. لقد كنا كممثلين لما تبقى من شتات الجيش المهزوم، في تجربة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية (مع البعث وذلك الذي انتشل لاحقا من جحره الأخير) نبذل كل جهدنا لتحذير قوى اليسار والديمقراطية في إيران من عاقبة الثقة والتحالف مع معسكر الإسلامويين وبنحو خاص أتباع ولاية الفقيه، غير أن كل ذلك ذهب أدراج الرياح، عندما أصرت قيادة أعرق حزب يساري في إيران (توده) أي حزب الشعب الإيراني، على تبني ماعرف بمنهج اتباع خط الإمام “بيروان خط إمام” الذي جذب اليه لاحقا جماعة فدائيو الشعب الإيراني “خط الأكثرية”. لم يمر وقت طويل على انتهاء النظام الجديد من تصفية غالبية قوى اليسار والديمقراطية والليبرالية، حتى التفت الى من راهن على شعاراته السياسية الفضفاضة في معاداة الامبريالية والحرية والعدالة الاجتماعية وغير ذلك من الشعارات، التي انتهت بهم الى أبشع وأتعس مصير يمكن أن تتخيلة عقولهم المثقلة بالأوهام، إذ الإعدامات التي لم تستثن قادتهم التاريخيين وأبرز جنرالات المؤسسة العسكرية من ذوي الميول الديمقراطية واليسارية، لقد كانت مجزرة تقشعر لها العقول والضمائر والأبدان. هكذا كانت عاقبة من لاذ بعباءة “خط الإمام” حيث انتهت التجربة بسحق كل ما له علاقة بالتعددية والتنوع السياسي والفكري في بلاد فارس القديمة، ليستحوذ أتباع ولاية الفقيه على كل شؤون الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فارضين هيمنتهم المطلقة على ذلك البلد، الذي وعدته آخر ثورة شعبية في القرن العشرين بالحرية والعدالة والأمن والازدهار.
في محطات ذلك المشوار المرير للتجربة الإيرانية، هناك العديد من الدروس والعبر، أهمها يتعلق بالجانب الفكري والثقافي، وخطورة عدم الالتفات الى ذلك التفاوت الكبير بين من يكرس كل إمكاناته ومواهبه للتحرر من وزر مخلفات الحاضر والماضي المثقلة بتقاليد العبودية والظلامية والخنوع، واضعاً كل همته وإبداعاته من أجل الحداثة والتعددية والحريات، ومن هم مثقلون بالحنين للماضي وقيمه وتشريعاته التي انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد. هذا الجانب (الفكري) يحاول البعض من دغل المدنية واليسار، التستر عليه بوابل من الخطابات الديماغوجية والشعارات المرحلية العابرة، لكن سرعان ما يتلاشى هذا الوغف التعبوي والدعائي، وكما يقول المثل “الوادم مهما مشت بالوادي لابد تطلع للشمس”. طبعا لا يمكن ان نختلف على حقيقة ان المشهد الحالي وبالرغم من مرور 15 عاماً على استئصال المشرط الخارجي للدكتاتورية، ما يزال حكراً للقوى التقليدية والمتخلفة من شتى الهلوسات والرطانات والازياء، وجولة الانتخابات التشريعية الأخيرة (12/5/2018) أكدت ذلك بشكل لا يقبل النقاش. وهذا يعني ضآلة وبؤس حالة الضد النوعي لتلك الكتل والجماعات والعصابات، أي القوى الديمقراطية والوطنية واليسارية والليبرالية، لا شيء هناك سوى الدغل المتمدد على المزيد من التضاريس المنكوبة. ومن الأهمية بمكان الإشارة الى اننا لا نشير الى هذه الدروس والعبر، كي تلتفت اليها ديناصورات “المدنية واليسار” لأن ذلك يتنافر وطبيعتها، بل ندونها لأجيال مقبلة من مصلحتها التواصل مع الإرث المشرق لكفاح الشعوب من أجل الحرية والكرامة والحقوق..
جمال جصاني