جان بيساني فيري
في أواخر التسعينيات، وبعد فجوة دامت ثمانية عقود من الزمن، بدأت عملية إعادة توحيد الاقتصاد العالمي. وكان الانفتاح الاقتصادي هو التوجه السائد. وانطلق تحرير التمويل. وسرعان ما بدأت شبكة الإنترنت الوليدة تعطي كل إنسان على كوكب الأرض القدرة على الوصول إلى المعلومات. ولإدارة الاعتماد المتبادل المتزايد التنامي، جرى تطوير مؤسسات دولية جديدة. وبُعِثَت الحياة في منظمة التجارة العالمية. وتم للتو إبرام اتفاق المناخ الملزم، بروتوكول كيوتو.
وكانت الرسالة واضحة: فالعولمة لم تكن تعني تحرير التدفقات من السلع، والخدمات، ورؤوس الأموال فحسب، بل كانت تعني أيضا تأسيس القواعد والمؤسسات المطلوبة لتوجيه الأسواق، وتعزيز أواصر التعاون، وتسليم المنافع العامة العالمية.
والآن، نعود إلى الوقت الحاضر في عام 2018. على الرغم من عشر سنوات من المحادثات، لم تصل مفاوضات التجارة العالمية التي بدأت في عام 2001 إلى أي نتيجة. فقد تفتتت شبكة الإنترنت وربما تزداد تفككا. وأصبحت الإقليمية المالية في صعود. وتعتمد الجهود العالمية المبذولة لمكافحة تغير المناخ على مجموعة من الاتفاقيات غير الملزمة، والتي انسحبت منها الولايات المتحدة.
صحيح أن منظمة التجارة العالمية ما تزال قائمة، لكنها أصبحت غير فعّالة على نحو متزايد. ويحاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لا يخفي ازدراءه للقواعد التعددية، عرقلة نظام تسوية المنازعات التابع لها. وتتظاهر الولايات المتحدة، ضد كل الأدلة بأن الواردات من شركة بي إم دبليو تشكل تهديدا للأمن القومي. وتؤمر الصين بقسوة ــ خارج أي إطار متعدد الأطراف ــ بزيادة وارداتها، وخفض صادراتها، وقطع إعانات الدعم، والامتناع عن شراء شركات التكنولوجيا الأميركية، واحترام حقوق الملكية الفكرية. ويبدو أن مبادئ التعددية، وهي إحدى الركائز الأساسية للحوكمة العالمية، أصبحت من بقايا ماض بعيد.
ماذا حدث؟ إنه ترامب بكل تأكيد. لقد خاض الرئيس الأميركي الخامس والأربعين حملته الانتخابية وكأنه ثور هائج في متجر للخزف الصيني، فأخذ على عاتقه تدمير صرح النظام الدولي الذي بناه وصانه كل الرؤساء الذين سبقوه منذ فرانكلين روزفلت. ومنذ تولى منصبه، كان حريصا على الوفاء بتعهداته، فانسحب من الاتفاق الدولي تلو الآخر وفرض تعريفات استيراد على الأصدقاء والأعداء على حد سواء.
مع ذلك، علينا أن نواجه الحقيقة: فلم تبدأ مشكلات اليوم مع ترامب. فلم يكن ترامب هو الذي قتل مفاوضات كوبنهاجن في عام 2009 حول اتفاق المناخ. ولم يكن ترامب المسؤول عن فشل جولة الدوحة التجارية. ولم يكن ترامب هو الذي طلب من آسيا أن تنسحب من شبكة الأمان المالي العالمية التي يديرها صندوق النقد الدولي. فقبل ترامب كان التعامل مع المشكلات أكثر تهذيبا وتأدبا، لكن المشكلات كانت قائمة.
التفسيرات كثيرة. ومن بين أكثرها أهمية أن العديد من المشاركين في النظام الدولي مترددون في تقييم أثر العولمة. فالتصور الشائع على نطاق واسع في الدول المتقدمة هو أن ريع الإبداع التكنولوجي تآكل بسرعة كبيرة. فكان عامل المصنع في الولايات المتحدة بالأمس مدينا لمستواه المعيشي لهذا الريع. ولكن كما أظهر رجل الاقتصاد ريتشارد بولدوين ببراعة في كتابه «التقارب العظيم»، أصبح الوصول إلى التكنولوجيا أكثر سهولة، وجرى تقسيم علميات الإنتاج، واختفت أكثر مصادر الريع.
يذهب تفسير ثان إلى أن الاستراتيجية الأميركية في التعامل مع روسيا والصين كانت فاشلة. ففي تسعينيات القرن العشرين، تصور الرئيس جورج بوش الأب ومِن بعده بِل كلينتون أن النظام الدولي قد يساعد في تحويل روسيا والصين إلى «ديمقراطية السوق». ولكن لم تتقارب روسيا ولا الصين سياسيا. صحيح أن الصين تتقارب في ما يتصل بالناتج المحلي الإجمالي والتطور العلمي والتكنولوجي، لكن نظامها الاقتصادي يظل متباعدا. وكما زعم مارك وو من جامعة هارفارد في بحث نُشِر له في عام 2016، فرغم أن قوى السوق تلعب دورا قويا في الاقتصاد، فإن التنسيق من قِبَل الدولة (وسيطرة الحزب الشيوعي) يظل متغلغلا. وقد اخترعت الصين قواعد اقتصادية خاصة بها.
ثالثا، الولايات المتحدة ليست على يقين من أن النظام القائم على القواعد يوفر أفضل إطار لإدارة تنافسها مع الصين. صحيح أن النظام المتعدد الأطراف ربما يساعد القوة المهيمنة القائمة والقوة الصاعدة في تجنب الانزلاق إلى ما يسمى «فخ ثوسيديدس» (المواجهة العسكرية). لكن التصور السائد في الولايات المتحدة هو أن التعددية تفرض من القيود على سلوكها أكثر مما تفرضه على الصين.
وأخيرا، تبدو القواعد العالمية عتيقة على نحو متزايد. ففي حين ما تزال بعض مبادئها ــ بدءا بالفكرة البسيطة المتمثلة في التعامل مع القضايا على نحو تعددي بدلا من النهج الثنائي ــ قوية كما كانت في أي وقت مضى، فإن بعضها الآخر كان مصمما لعالَم لم يعد موجودا. والواقع أن ممارسات التفاوض التجاري الراسخة لم تعد منطقية في عالَم سلاسل القيمة العالمية والخدمات المتطورة. كما بدأ تصنيف الدول وفقا لمستويات التنمية يفقد جدواه، وذلك لأن بعضها يجمع بين شركات عالمية من الطراز الأول وجيوب من التخلف الاقتصادي. لكن القصور الذاتي لا يزال قويا، وإن لم يكن ذلك إلا لأن الإجماع مطلوب لتغيير القواعد.
ما العمل إذن؟ يتلخص أحد الخيارات في الحفاظ على النظام القائم إلى أقصى حد ممكن. وكان هذا هو النهج الذي جرى تبنيه بعد أن سحب ترامب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ: فما يزال الموقعون الآخرون ملتزمين بها. والميزة في هذا الأسلوب أنه يحتوي الضرر الناجم عن السلوك الغريب من قِبَل دولة واحدة. لكن بقدر ما يُعَد سلوك الولايات المتحدة عَرَضا، فإن نهج الحفاظ على النظام القائم لا يعالج المرض.
ويتمثل خيار ثان في استعمال الأزمة كفرصة للإصلاح. إذ ينبغي للاتحاد الأوروبي، والصين، وبعض الدول الأخرى ــ بما في ذلك كما نأمل الولايات المتحدة عند نقطة ما ــ أن تأخذ زمام المبادرة في إنقاذ جوانب التعددية القديمة التي ما تزال مفيدة، ولكن مع دمجها في ترتيبات جديدة أكثر عدالة ومرونة وملاءمة لعالَم اليوم.
وتتمثل الميزة في هذه الاستراتيجية في تحديد واستيعاب الدروس المستفادة من استنفاد الترتيبات التقليدية وظهور ترتيبات جديدة. لكن هل يتوفر القدر الكافي من الزعامة والإرادة السياسية للذهاب إلى ما هو أبعد من التسويات الفارغة لإنقاذ ماء الوجه؟ مكمن الخطر هنا هو أن الإصلاح الفاشل قد يؤدي إلى التفكيك الكامل للنظام العالمي.
في النهاية، لا يتمثل الحل في تشجيع الحنين إلى نظام الأمس ولا في غرس الأمل في أشكال مفككة وغير فعّالة من التعاون الدولي. إذ يتطلب العمل الجماعي الدولي القواعد، لأن المرونة وحسن النية وحدهما لا يكفيان لمعالجة المشكلات العصيبة. ويتمثل المسار الضيق إلى الأمام في تحديد متطلبات الحد الأدنى من العمل الجماعي الفعّال، على أساس كل حالة على حِدة، وصياغة التوافق بشأن الإصلاحات التي تلبي هذه الشروط. ولا شك أن أولئك الذين يؤمنون بوجود هذا المسار، يعلمون أنهم لا يملكون ترف إهدار الوقت في البحث عنه.
*عن موقع بروجيكت سنديكيت.