الفن والحياة !

قال أرسطو إن للشعراء أن ينشدوا ما يشاؤون، دونما حرج، وليس من حق أحد أن يشكل عليهم في ما يقولون. فالشعر فن حر لا يلتزم بقيد ولا يخضع لسلطان. و ما فعله أفلاطون بطرده الشعراء من مدينته، ما خلا أولئك الذين يتمسكون بالفضيلة، ويتحلون بالعقل، ويذكرون الآلهة بالخير إن هو إلا باطل لا يستقيم مع روح الفن، ولا ينسجم مع رسالة الشعر.
والفرق بين الرأيين واضح جلي. فالأول يدين بالعقل والثاني يحتكم للروح. ومازال الناس إلى يومنا هذا يختلفون في نظرتهم للشعر – أو الفن عموماً – على هذا الأساس. ولكل فريق حججه ومبرراته. إلا من تطوع للجمع بين الاثنين، أو التقريب بين الوجهين.
وأتباع أرسطو يرون أن الفن خلق للتسلية والمتعة، وليس لمعالجة ظاهرة، أو نشر فكرة، أو الترويج لعقيدة, فلهذه الأمور وسائلها الخاصة. فإذا ما وجد الناس فيه ملاحة أو جمالاً أو طرافة أحبوه ومالوا إليه.
ومعنى ذلك أن لا شأن للأدب أو الفن بالحياة، ولا دور له في توجيه الأفكار. فهو لم يخلق للتعبير عن المعاناة أو المشاكل اليومية، وليس هدفه الدعوة إلى فكرة أو الانتصار لمبدأ.
والعناية بالشكل أو المظهر الخارجي دون الالتفات للمضمون، مذهب قديم. وله بعض الجذور في أدبنا العربي القديم. إلا أن بدايته الحقيقية كانت بعد انهيار سلطة الكنيسة الغربية في القرون الأخيرة، وانطلاق الأصوات التي تنفي عن الفن صفة النفعية أو الالتزام العقائدي، وتدعو إلى تحلله من أي فكرة موروثة، أو سلوك اجتماعي محدد. وكان أول من نظر له كانط ، وتبعه الشاعر الفرنسي بودلير. أما العرب فكان من دعاته العقاد وتوفيق الحكيم.
إن العصور التي شكلت ضغطاً على الفن، ووظفته في خدمة السلطة أو الدين هي التي أنبتت المذهب التعبيري (أو الفن للفن) وجعلته يحظى بالقبول لدى الناس. ولا شك أن ازدهار سوق الشعر في الجاهلية كان بسبب تحلله من أي قيمة حياتية أو فكرية. فلم تكن له غاية سوى الإجادة والاتقان، ولم يكن له هدف سوى التجلة والبيان. على خلاف ما جرى بعد ذلك في عصر صدر الإسلام. وما إن عادت الأمور إلى مجاريها بعد استقرار الدين الجديد، وخمود روح المعارضة لدى الناس، حتى عاود سيرته الأولى من جديد.
ومع أنني لا أرى أن الاستغراق في نظرية الفن للفن يخدم المجتمع، إلا أن شيوع الحس الجمالي لدى الأفراد دافع عظيم لنشدان حياة أفضل، وباعث كبير لتبني قيم أكثر نبلاً. كما أن ترقية الذوق دليل على التحضر والمدنية.
وربما يعني ضمور الفن في بلادنا على وجه الخصوص، أننا أحوج ما نكون هذه الأيام إلى العودة إلى هذا المذهب، لتأسيس مدرسة تعبيرية تهتم باللغة والشكل، والجمال والذوق. مثلما فعل العباسيون في القرن الثاني للهجرة. لأن مدرسة كهذه هي الأقدر على إعطائنا دفعة من الأمل للولوج إلى العصر، وإعادة الاعتبار للذات، والخروج من محنة التخلف.
محمد زكي إبراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة