عارف حمزة
قد يبدو الأمر وكأنّ مبتغى رواية «بيت السودان»، الصادرة حديثاً عن دار الآداب البيروتيّة للكاتب العراقي، المقيم في هولندا، محمد حيّاوي، هو معرفة قصّة بطل الرواية «علي» صاحب البشرة البيضاء الوحيدة الذي يعيشُ بين نسوة ذوات بشرة سوداء. كيف يمكن أن يكون «علي» ابناً لياقوت صاحبة بيت السودان؟ وإذا لم يكن كذلك، فمن أين أتى ومَن هما أبواه وما هي حكايته؟.. ومع جريان السرد نعثر على إجابات متفرّقة على كثير من الأسئلة حول شخصيّة علي، وبالتالي حول شخصيّة «ياقوت» الجميلة والراقصة والمغنيّة السمراء التي جمعت فتيات سوداوات كي يحصلن على لقمة العيش من خلال العزف والرقص والغناء، ولكلّ واحدة منهنّ حكاية انتهت بها في بيت السودان. ولكنّه ليس بيت دعارة. هو بيت متعة الحواس البعيدة عن الجنس. لدرجة أنّ ياقوت تطرد أيّ صبيّة تنهار تحت رغبتها الشديدة وتُقيم علاقة ما مع أحد الزبائن، أو مع علي نفسه، كما حصل لمرّة وطردت فيها إحداهنّ، فتُقدم هذه على الانتحار وتتجوّل روحها على هيئة غزال حول علي وحول البيت.
لم يكن هدف حيّاوي تفكيك قصّة علي البوليسيّة، إذا جاز التعبير، رغم أنّه يقوم بتفكيك شخصيّته التي يتمّ تشكيلها على يد نسوة متعدّدات ومختلفات، ليس في بيت السودان فحسب، بل كذلك في الشوارع التي يُلاحق فيها النساء المختلفات الأجساد والجمال. ويلاحقهنّ حتى في الأسواق والمقابر. «إنهنّ صانعات ماهرات، مثلَ مثّال حاذق، تُلصق إحداهُنّ أذني في مكان مرتفع قليلاً فتأتي الأخرى لتنتزعها وتلصقها من جديد في مكان مناسب. تحفرُ إحداهنّ نقرة سرّتي بسبابتها الرفيعة في مكان منخفض قرب عانتي، فتأتي أخرى لتردمَ الحفرة وتصنع لي سرّة جديدة في مكان مناسب. لطالما حوّرت النساء شكلي وعدّلنَ فيه، حتى أصبحتُ في النهاية ما أنا عليه، حصيلة النساء وتعديلاتهنّ التي لا تنتهي».
يبدو بيت السودان مكاناً هادئاً، وتُقام فيه تلك الليالي باستمرار إلى حين وقوع أحداث كبرى في العراق، فتُقدّم الرواية تلك الأحداث بسلاسة كبيرة. إذ لو قلنا بأنّ الرواية تروي حقبات زمنيّة كبيرة من حياة بلد كالعراق، سيبدو الأمرُ كما لو أنّنا أمام رواية هدفها التأريخ أو رواية ما لا يُمكن نسيانه والذي أدّى إلى خراب المنظومات الاجتماعيّة والأخلاقيّة والسياسيّة في العراق.
تبدأ هذه السرديّات التاريخيّة مع دخول شخصيّة «عفاف» اليساريّة إلى بيت السودان، وهي ابنة لشخص هرب وتوارى بسبب فشل الانتفاضة ضد نظام الديكتاتور. عفاف التي ستدرس مع علي في الجامعة، وستكون صاحبة عمل دؤوب مع شباب وفتيات الجامعة التوّاقين للتحرّر من الاستبداد والبطش الذي تُمارسه الديكتاتوريّة والفساد ومنظومة هذا الفساد، وستكون في مقدمتهنّ في الإنتفاضة التي سرعان ما سيقضى عليها النظام الديكتاتوريّ، ويترك جثث المواطنين متكوّمة في الشوارع كدرس أبديّ لكلّ مَن يفكر بالخروج عليه.
من هذا المنظور سيعيش بيت السودان أحداث الحصار الاقتصادي الدوليّ على العراق، ويُعاني سكانه من العوز وقلّة الحيلة. وكذلك في الاحتلال الأميركيّ وسقوط صدّام حسين وصعود القوى الإسلاميّة والعشائريّة وتفكّك العراق أخلاقيّاً وسياسيّاً. سيتم اعتقال عفاف بعد اعتدائها، مع مجموعة من أصدقائها المقاومين، على جنود أميركييّن ويُلقى القبض عليها، ولكنّها ستخرج من المعتقل بعد وساطة جنديّة أميركيّة سوداء جُرحت في ذلك الاعتداء. الجنديّة، التي خطفتها مجموعة عفاف وداوتها فيما بعد، ستصل إلى بيت السودان، وتعيش بينهم ليومين قبل أن يُعيدها علي إلى مقر القاعدة الأميركيّة. تندهش تلك الجنديّة، كما نحن القرّاء، من أجواء ذلك البيت ونسوته وطيوره وحديقته وتتمنّى لو تبقى بينهم كأحد سكّانه.
شخصيّات كثيرة تدخل إلى بيت السودان، والرواية، وتخرجُ منه ومنها، فنعثر على حكايات متولّدة من حكايات لا تنتهي. منها شخصيّات لا تبقى هامشيّة رغم هامشيّتها؛ كما شخصيّة «ضُمد» وهو حارس المقبرة الملكيّة في «أور»، والذي يعرف مكان «الرُقم» ويعرف قراءتها، ويُفسّر لساكني بيت السودان ما يجري حاليّاً من أحداث، كما عندما قرأ في أحد الرقم ما يُنبّئ بالغزو الأميركي للعراق، أو تنبّئه بفشل الانتفاضة، بعد انطلاقها بقليل، وبجثث الناس المقتولة في الشوارع من خلال رقيم آخر!
رغم أنّ ياقوت حرّمت على ساكنات بيت السودان المُتع الجنسيّة مع الزبائن، تحت طائلة الطرد النهائيّ، وخاصّة بعدم الاقتراب من علي جسديّاً، إلا أنّ المُتع الجسديّة وغليانها وكبتها ووصفها وعيشها يبقى محرّكاً أساسيّاً في هذا العمل، وهذا يجعلنا نتعرّف أكثر على شخصيّات العمل بدنيّاً ونفسيّاً. وياقوت نفسها، التي قامت بتربية علي ويناديها أمي، تقع في حب ابنها ويقع هو في حبها، ويصل الأمر إلى التفكير في الانجراف في علاقة جسديّة كاملة، بعد الكثير من التقبيل والزفرات والخيالات، خاصّة أنّه ما زال كلّ ليلة ينام إلى جوارها في سرير واحد رغم اقترابه من العشرين من عمره. إلى أن تدخل عفاف هذا البيت وهذا السرير وتصير تنام في وسطهما. وتعترف ياقوت بأنّها لا تستطيع أن تقف في وجه حب عفاف لعلي. ومع دوام نوم الثلاثة معاً تنشأ علاقة عشق ملتهبة بينهم جميعاً؛ لنكتشف عشق علي وعفاف لياقوت وتمنّي مضاجعتها معاً!
يُحافظ صاحب «خان الشابندر» على ذلك السرد المتدفّق والسلس والذي يجعل الرواية تنتهي بسرعة بين يديّ قارئ متلهّف لأجواء رواية تُقدّم الكثير من القصص والشخصيّات والمواضيع والتاريخ والوقائع الحقيقيّة والمتخيّلة، وحتى الفانتزيا يُصبح لها طعم واقعي في بلد تعرّض في العقود الأخيرة، وما يزال، لكثير من البطش العسكريّ والسياسيّ والعالميّ أيضاً.
لا يقصد حيّاوي هدفاً محدداً في روايته الأخيرة بيت السودان، طالما فكّرَ طوال وقت كتابتها بالمتعـة التي يشعر بها وهو يكتب عن بلده العراق من مكان إقامته البعيد في هولندا، وهذا ما يجعل المتعة، فيما بعد، من نصيب قارئ الرواية أيضاً.